قراءة في كتاب: سيرة الغزال
«يجب أن نترك لأحفادنا مايقرؤنه عنا ، حتى يعرفوا كيف كنا ، وكيف عشنا «
بهذا المدخل يفتتح الكاتب كتابه الموسوم ( ليبيا ملتقى المغرب والمشرق.. قراءة في مكونات الثقافة السائدة ) الصادر عن الجامعة المغاربية طرابلس
جاء الكتاب في أربعمائة وخمسين صفحة، طاف بنا خلالها المؤلف بعالم الحكايات الشعبية والعادات والتقاليد والمظاهر الاجتماعية التي عرفها مجتمعنا في يوم من الأيام خاصة خلال الخمسينات والستينات ، بعضها اندثر ، وبعضها الآخر مازال مستمرا ، صورها المؤلف في مشاهد نابضة .راصدا بعين الباحث المتأمل ، وبقلب العاشق لمدينته ، وبلغة الفنان ماشاهده وتعلمه وسمعه في طفولته، فهذه حكمة قالها له والده ، وتلك حكاية خرافية روتها جدته ، وهذا مشهد رسخ فيي ذاكرته وهو طفل، وتلك فكرة نبتت في ذهنه وهو يتأمل الحياة والناس وتقلبات الزمن، ويقارن هذا كله بما قرأه في كتب التاريخ عن عادات الشعوب وتقاليدهم، فبدأ الكاتب وكأنه يكتب سيرته الذاتية من خلال رصده لملامح البيئة التي عاش فيها ، فأصاب بذكائه . كما يقول الدكتور خليفة التليسي عصفوريين بحجر واحد فأرخ لبيئته حين أرّخ لنفسه وأرّخ لنفسه حين أرّخ لبيئته .
يكتب المؤلف في أحد الفصول عن بعض الأمثال الشعبية في مصراته مقارنا إياها بماأورده ابن عاصم الأندلسي الغرناطي من أمثال أندلسية في كتابه ( حدائق الأزهار ) مبينا أوجه التشابه بين الأمثال هنا وهناك ، وفي فصل آخر يكتب بلغة قصصية عن خرافات الجدات وحكاية رجل يدعى ( علاش كل شيء ماعنداش ) وفي فصل آخر يحدثنا عن ( ام قتنبو) رابطا إياها بتقاليد أفريقية قديمة جدا عرفت بها منطقة الشمال الأفريقي .
وفي فصل حمل عنوان ( سقيفة حليمة ) يروي الكاتب بلغة رشيقة مرحة ، كيف دخل المذياع لأول مرة بيت جدته حليمة ، ( بدعة جديدة يكثر حولها اللغط هذه الأيام (….) بدعة تروج لها الفتيات وترفضها العجائز والجدات ن وتتعاظم الإشاعات كل صباح حول صندوق العجب ، (الراديو ) هذا الصندوق الذي صدم العقول ، تتحدث عنه فاطمة بنت عمران التي وصلت من بيت أختها في طرابلس ، تصف صندوق العجب بكلام عجيب لايصدقه أحد ، إذ كيف لصندوق أن يتكلم ؟ ليس هذا فقط ، بل يتكلم بصوت الرجال كيفما شاء ، ثم يتكلم بصوت النساء ، لقد جاءت الدنيا بما فيها ، كيف لهذا الصندوق أن يضرب (الموزيقا) ويدق (الدربوكة) استغفر الله العظيم ، يقال أنه يقرأ القرآن الكريم ، ويرفع الآذىن في كل صلاة «
وعن الكسوف والخسوف يصور المؤلف كيف كان الناس خلال الخمسينيات يخرجون لمراقبة خسوف القمر وكسوف الشمس ، وهم خائفون ومتشائمون ، يقرعون الآواني والصحون والقدور النحاسية، يلهج الرجال بالتوحيد، والنساء تبكي، وتتعالى أصوات الطبول والدفوف ، وذلك لمساعدة القمر أو الشمس في محنتها ، حتى تعود مشرقة ثانية ، فيعم الفرح !!
وفي فصل جاء تحت عنوان (أغاني النساء ) يحدثنا الكاتب عن نماذج من المراة الليبية المقهورة في مجتمع ذكوري متخلف ، وهو ماجعلل النساء يعبرن عن أنفسهن في المناسبات العامة من خلال الشعر الشعبي والأغاني المشحونة بالشجن والوجع والأسى ، يرسلنها رسائل رمزية احتجاجية تكشف معاناة المرأة مثل تلك الشاعرة التي أجبرتها الظروف أن تقترن برجل لم يقدرها ولم يحترمها فأطلقت صرختها الهجائية ، قصيدة من بيت واحد طافت البلاد كلها واخترقت زمانها لتصل زماننا :
حديد شيركو مانك حديد مناجل
غير من عوز الأيام درت منك راجل
كما يتضمن الكتاب فصولا أخرى عن أغاني المطر والشمس والقمر التي كان الأطفال يرددونها أيام زمان ، وعن العلاج بالكي ، وتطعيم الأطفال بالعقارب ، ومواسم صيد العصافير ، وتربية الحيوانات ، وعن عادة أكل الكلاب ، والأسماء الشعبية للأقمشة النسائية ، وحارة اليهود في مصراتة ، إلى غير ذلك من الذكريات التي يستعيدها المؤلف بلغة الحنين تارة وبلغة التأمل والنقد والمقارنة مع عادات الشعوب الأخرى تارة ثانية
لقد كتب دكتور خليفة التليسي على غلاف الكتاب واصفا إياه بأنه كتاب لذيذ وهو فعلا كذلك ، وقد استمتعت بقراءته وكأنني كنت أجلس إلى جانب المؤلف وهو يروي لي تلك الحكايات الشعبية الطرييفة التي استقاها من بيئته الاجتماعية في مصراتة الجميلة .