حين عجز حبرنا، وجفتْ أقلامنا على صياغة ذاكرتنا، وتهنا على درب هويتنا جلس «نادر الطوير» وبفطرته ودون ورقة تكليف ليرفع هذا العبء ويعيد صياغته عنّا حجرًا وطوبًا يرفعه من جغرافيا ليبيا نفسها ..
أخذ على عاتقه كل هذا وهو يبتسم وكأنه عكس الكل المتشائم يؤمن بأن ليبيا ليس بالسهولة أن تضيع ….
كل صباح يستفيق ليرفع وعلى نهج الأوائل بيت من حجر عتيق، أو يرمم سورًا لبيت تاريخي رغم خشونته تراه يربت عليه كما فراشة كي لا تضيع منه التفاصيل التي سنها لأجله الأولون .. أو تراه يرفع سلمًا عن الأرض بحجر غير مصقول، أو خشب جاف، ويشد أواصره بحزام من قديم الحديد ..
كثيرًا ما يفعله «نادر» لأجل أن لانتوه عن تاريخنا لذا تراه يصر على أصغر التفاصيل .. يحفر بئرًا ويرفع سالفتيه كما القديم أو يأخذ حجرًا من أرض مسلاته ويرسم عليه «خميسة» ويضعه على باب صنعه من خشب عتيق فلا تملك أمام كل هذه الكتابة التي تختلف إلا الدهشة وتردد عاليًا «وبمخيلتك كل ما تعرضه ناشيونال جوغرافيك» بقولك يالله كم هو تاريخك من ذهب ياليبيا وما احوجنا بهذا التوقيت أن ندخل العصر دون رتوش ولا عمليات تجميل ..
صباح آخر ومع خيوط الفجر تجده يصعد جبلاً ليحصد نبات الحلفاء ليعود بعد أيام من تجميعه ليصنعه مقتنيات قديمة يعلقها بدرب ذاكرتنا التائهة علها تنعشها وتعيدها للطريق الصحيح بل ويصنع منها اكسسوار جميلاً يليق بأفخر استــــوديوهات التصوير ..
أما الزيتونات فيعرفها بالاسم وكذا يعرف كل تاريخ زيتون قريته «العمامرة» والكثير من زيتونات مسلاته والخمس وترهونة وإن تحصلت على وقت لديه فيستضيفكَ لتجلس أمام «كوجينة الفحم العتيقة» ليعد لك الشاي الثقيــــل وبعد أن يسقيك من لبن الماعز تستغرب خروجه على النص وهو يفتح لك علبة البسكويت ..فيدرك نظرتك المستغربة فيبادرك قائلاً :
أنا اشتغل كل الذي رأيته لأنني أدرك تمامًا أننا في 2024 لكنني اعلم أن اليابان اقوى اقتصادات العالم احرقتها القنبلة الذرية لكنها لم تحرق تاريخها وهويتها خلفها لتدخل هذا العصر باصالتها ومن بابه الواسع والعريض ..
يفاجئك قوله هذا أكثر مما فاجأتك بعلبة البسكويت، بعد الشاي يستمر مسامرًا ويحكي لكَ عن كم من مئات الأنواع من الزيتون والتي تزهو بها كل تلك الجبال ثم يشرد قليلاً ليخبرك لربما اقدم زيتونات العالم زرعها الفنيقيون بهذه الأرض لكن للاسف الأمر يحتاج لوجود خبراء حقيقيين تمامًا كما الذين نشاهدهم على «ناشيونال جوغرافيك» !! وللأسف أنا لوحدي وياليت قومي كانوا يعلمون.
