رأي

القوى السياسية وآليات صنع الانتخابات.. للكاتب أبوبكر المحجوب

 

كلما مررت على ساحة الحرية ، حاولت أن استعيد صورة شعب ثائر خرج يوم السابع عشر من فبراير من عام 2011م و قبله بيومين كانت هناك مظاهرة حاشدة في مدينة البيضاء بالجبل الأخضر ،و هي ليست الأولى أيضا فقبلها كانت هناك العديد من المظاهرات و الانقلابات . ما يلفت النظر في هذه الصورة ،أن هذا الخروج شمل معظم المناطق الليبية بمختلف فئاتهم و انتماءاتهم السياسية و أوضاعهم الاجتماعية ،فقد اشترك الجميع في حلم قديم بالتغيير ،ينشدون فيه العدالة والمساواة و الحرية والكرامة الإنسانية .. فكلما استعدت هذه الصورة ،أطلّت أمامي صورة أخرى يعيشها الليبيون الآن ،حيث الانقسامات و الصراعات والمعارك الوهمية حول أشياء لا وجود لها . فهذا الشعب الذي ثار على الاستبداد هو نفسه يصارع الآن بعضه بعضا تحت شعارات دينية و ليبرالية و علمانية . و انقسم تحت زعامات مختلفة لم تحاول أن تتفق على شيء ،بل ربما وجدت في حرب الانقسامات ما يملأ الفراغ أو يرضي بعض الطموحات . و الغريب أن مجرد النظر في خريطة تلك الانقسامات في الشارع الليبي ،نجدها تلقى بنا في دوامة الحزن الثقيل لما وصلت إليه أحوالنا ..

نحن أمام تيارات دينية كان الأجدر بها أن تسمو فوق كل الصراعات بحكم الانتماء و بحكم التجربة ،إنها تيارات اختارت طريق الله ليكون نبراسا و هديا و ملاذا .. و هي تيارات عاشت تجربة قاسية في ظل القمع السياسي والاستبداد و غياب الحريات ،و كان ينبغي أن يتخلص المجتمع من كل هذه الآثار السلبية ،إنها تيارات خرجت من ظلام السجون و المعتقلات و معها حلم قديم في تحقيق العدالة والمساواة والحريات في الفكر والسلوك ..

إن الصورة التي شاهدتها عند انطلاقة ثورة فبراير قد جمعت كل التيارات الدينية و السياسية و انصهرت في المجتمع و عاشت مع كل فئات الشعب لحظة تاريخية نادرة و كان ينبغي لهذه الصورة أن يتمسك بها الجميع ،و لكن ما حدث كان عكس هذه الصورة و صار كل تيار يرى مصلحة الوطن من مصلحته ،فابتعدت الرؤيا و زادت المشاحنات و كل منهم يرى في نفسه هو صاحب الثورة و هو الأحق بالسلطة و ما يتبعها ، و هذا الخلاف أنتج سلطة على أرض الواقع من عدة قوى صارت هي أيضا من ضمن المشهد ،فهي اليوم ترى نفسها أحق بهذه الثورة التي لا رأس لها و بالتالي فهي الأجدر بتولي السلطة رغم اختلاف المسميات ..

اليوم الجميع يعاني الانقسامات و الوطن يعاني التشرذم في ظل هذه الانقسامات ،مما شجع الآخر على أن يتدخل بكل عنجهية و سفور ،و أن يزيد من هذه الانقسامات لهذه التيارات إلى تيارات أخرى ،والتي لها أكثر من صفة . ليوفر قاعدة شعبية من المعارضين السائرين في مثل سلوكيات الإسلاميين فهي سلوكيات متعددة الهوى والألوان ..فصارت سمة يتصف بها الحراك الليبي في كل أنحاء ليبيا ناهيك عن غياب دور الأحزاب و منظمات المجتمع المدني في الحياة السياسية التي تمر بها البلاد.

أن هذه القوى تعاني كل ظواهر الفشل المبكر ،لأنها جميعا خارج نطاق المنافسة بصورتها الحالية ،إن أزمتها الحقيقية في أنها تحمل أكثر من زعامة و لا شك أن تعدد الزعامات بهذه الصورة يخلق بينها تناقضات تتجاوز التناقضات القائمة حاليا مع التيارات الدينية ..فنحن أمام أكثر من رمز و أكثر من زعيم فهل ممكن أن يجلس كل هؤلاء جميعا و الاتفاق على كلمة واحدة و هدف واحد.

فإذا كان هذا هو التفكير من أجل الوصول إلى السلطة فمتى نرى صيغة لتداول السلطة عن إيمان وقناعة و إذا كان التيار الليبرالي هو أيضا غير معترف بالقوى الأخرى فما هي الديمقراطية التي نريدها ،هل هي ديمقراطية التيار و الفكر الواحد إذا المأساة واحدة عند الطرفين . . فإذا كان هناك أزمة تعيشها التيارات الإسلامية رغم وصولها للسلطة فإن هناك أزمة أكبر تعيشها المعارضة في الشارع الليبي لأنها لم تستطيع حتى الآن توحيد قواها المنقسمة على نفسها و تقديم برنامج واضح أمام الشعب يمكن من خلاله توحيد الإرادة الشعبية ،نحن أمام كيانات سياسية لا تتجاوز حدود الرؤوس و القيادات و لكنها لم تستطع حتى هذه اللحظة أن تمد جذورها مع بقية المجتمع .. إنها عبارة عن اجتماعات و تجمعات ،و لقاءات تظهر عبر الفضائيات و هي لم تتجاوز حدود المدن الكبرى ،و هذه لا تستطيع أن تقيم حلا لهذا الحراك الليبي ،و من هنا فالأمر الأكثر تشجيعا هي تلك الأحزاب و الجمعيات التي لها صبغة وطنية،و التي لا هي دينية و لا علمانية و لا ليبرالية ،بل تمثل المدرسة الأولى بحق للوطنية الليبية ،و هي موزّعة على كامل التراب الليبي،و يبقى الأمل في الشباب الليبي الواعي لدوره التاريخي بالمشاركة في مرحلة « من الثورة إلى الدولة « هؤلاء الذين صقلتهم ثورة فبراير،و هم الذين ينطلقون من الثوابت التاريخية والنضالية و هم الأقرب إلى النجاح .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى