لأني دائم التنقل في ربوع بلادي وحتى في بلادنا المغاربية، ارتأيت بأن أستذكر بعض اللوحات الجميلة التي ازدانت بها بلادي، في محاولة لإظهار صور لوطن رائع لا يمكن إلا أن يكون كما يجب أن يكون، وليس كما يريدونه ثلة من المرضى المأجورين، الذين باعوا البلاد، وهذه المرة من مْــسَلَّاتة التي تعالت أرضها وسكن الهواء العليل أجوائها، مزدانة بجمال الطبيعة، تصف صديقتنا الأستاذة نجوى وهيبة محميتها الطبيعية بأنها قطعة من الجنّة، ويراها عشّاق الطبيعة لما لها من خضرة، ويراها أنصار البيئة كأنها سفينة نوح، لأنّها تحمي أصنافاً كثيرة من الحيوانات والنباتات من الانقراض والتناقص، وهي مكان يتسمُ بالهدوء والسكينة، تسمع فيها حفيف أوراق الشجر تحرّكه النسمات وزقزقة الطيور التي تُعشش في شجر المحمية منذ زمن.
فرج غيث
ففي مْــسَلَّاتة هذه البقعة الجميلة التي يجهلها الكثير من أبناء الوطن، تكتسي الأرض بلون زاهي من الأزهار الجميلة، مانحة لكل من يزورها أمتع المناظر التي حباها الله بها، طبيعة ساحرة ومتنوعة، متمثلة في تنوع غريب وجبال مختلفة من حيث الطبيعة والارتفاع، فأينما وضعت رجلك وجدت نفسك في احدى جناتها، هناك السهول والأودية والجبال الخضراء بتنوعها في كل شيء، وحيث أرض غابات الزيتون الشاسعة التي اشتهرت بها هذه البقعة الجميلة.
ولمن لا يعرف مْــسَلَّاتة (بتسكين الميم وفتح السين وتشديد اللام) هذه اللوحة الفنيّة الطبيعية الجميلة، مدينة تقع في شمال غرب ليبيا على مسافة 130 كم شرق العاصمة طرابلس، يحدها من الشمال منطقة العلوص ومن الشمال الشرقي الخمس وكعام ومن الجنوب الغربي ترهونة، ويرتفع مركز المدينة (القصبات) عن مستوى سطح البحر 198 متر، وفي الجبل أيضاً تتواجد العديد من المناطق الأثريّة والسياحية، حيث تحتوي المنطقة على قرابة 22 قصبة وهو بناء عمودي يشبه المسلة، وهو ما يرجحه البعض بأنه أصل تسمية مدينة مْسَلَّاتة، وأن الاسم هو تحريف لكلمة مْــسَلَّات (جمع مْــسَلَّة)، وهناك من يقول أن الاسم له علاقة بكون المدينة مركز مهم لزراعة أشجار الزيتون فكلمة مْــسَلَّاتة باللغة التي كان يتحدث بها سكان شمال افريقيا القديمة هي اسم لأحد أنواع الزيتون، ورجح أخرون بأن أصل الاسم من السلت أي سلت الزيتون والميم في بداية الكلمة هي اختصار (أم) التعريف في اللغة العربية الحميرية التي تقابل أل التعريف في اللغة العربية، وهناك ربط بجبل وسَلَّات موطن قبيلة الوسالتية أو عرش وسَلَّات التي تتفرع القابه الى اكثر من 200 لقب وتعدادها 1.3 مليون نسمة في تونس فقط، ويوجد عدد كبير في شرق الجزائر، وذكر لي صديقي ياسين الوسلاتي بأنهم فقدوا التواصل بالوسالتية الذين هربوا الى ليبيا عبر جبل نفوسة في القرن 18 سنة 1762م، ويوجد رجل علم وفقيه هو الولي الصالح عبد الغني الوسلاتي بجبل نفوسة، وتحدث الدكتور عبد الواحد المكني رئيس جامعة صفاقس وصاحب كتاب (شتات أهل وسَلَّات بالبلاد التونسية)، الذي يروي قصة نجاحات الوسالتية بجبل وسَلَّات والذين كانوا أول قوة اقتصادية خلال القرن 17 ميلادي، وكيف حقق الوسالتية نجاحات باهرة في الميدان الاقتصادي سوى في جبل وسَلَّات موطنهم الأصلي بزراعة الأشجار المثمرة والزياتين في سفاح الجبال المتحجرة، وحتى بعد قرن من استقرارهم بمواطنهم الجديدة بعد أن تم تشتيتهم والتنكيل بهم، من قبل جيش الدولة الحسينة يوم الجمعة 4 يوليو 1762م، كما تروي القصة المأساوية والتراجيدية وكيف تمت محاصرتهم، وهو آخر التشتيت، ويقول الباحث تادايوش ليفتسكي في كتابه دراسات شمال افريقيا، (منطقة لبدة، وعلى غرار حامية جبل طرابلس ممتد في شكل سلسلة جبال ذات سفوح شديدة الانحدار، ترسم قوساً من قابس حتى مسلاتة، وقد سمى باسمها جبل وسَلَّات الحالي، وفي الاندلس كانت هناك مدينة تسمى مسلاته الموريسكية، تقع غرب بلنسية وجنوب النهر وقد ذكرت سنة 1095 عند هجوم صنهاجة (المرابطين) على مملكة بلنسية، ويقول أبن خلدون في قبلة قابس وطرابلس جبالاً متصلاً بعضها ببعض من المغرب إلى المشرق، وبالتأكيد يوجد رابط بين وسَلَّات ومْــسَلَّاتة لأننا مغاربة وكل ما يجمعنا واحد على امتداد أرضنا المغاربية.
وردت مْــسَلَّاتة بالمعنى الأوسع للفظ في المصادر الرومانية باسم مسفي حيث تعود للقرن الثالث ميلادي وهي محطة على الطرق الرومانية بين مدينة لبدة الكبرى وترهونة، وتشتهر بقلعتها القلعة الإسبانية التي بناها الإسبان، وهي مبنى اثري كبير يعود لمئات السنين وسط سلسلة من جبال المدينة ، تحتوي مدينة مسلاتة على بعض المباني التاريخية منها القلعة الإسبانية التي بناها الإسبان بقيادة سنة 1510م على أنقاض معبد روماني العائد للقرن الثالث ميلادي، كما يوجد بها العديد من المباني التي كانت تستعمل للحراسة وتخزين الحبوب تسمى الهنشير في نفس الحقبة الرومانية، وبها مقر جمعية مْـسَلَّاتة الأهلية لتحفيظ القرآن وعلومه، وقصر المعمورة وقصر الجديد وقصر بو حرب وقصر المسيد وقصر سم الديس، ومنتزه المحمية البرية بمنطقة الشعافيين المنتزه الوطني.
تعتمد شهرة مدينة مْــسَلَّاتة بأن لها الريادة في حفظة القرآن الكريم وكثرة مراكز التحفيظ بالإضافة إلى وجود جمعية متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم وهي التي تقوم بالمواسم الثقافية خلال شهر رمضان المبارك ومن المراكز المهمة لتحفيظ القرآن الكريم، وتشتهر بكثرة زوايا تحفيظ القران الكريم ومن أهم وأشهر وأقدم هذه المراكز زاوية الشيخ يوسف الجعراني بمنطقة الجعاريين، وزاوية الدوكالي التي أسسها الشيخ عبد الله الدوكالي بقرية زعفران، والتي تقوم بدور بارز في هذا المجال منذ القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا، والتي طلب فيها العلم بعض المشائخ المهمين مثل الشيخ أحمد الزروق والشيخ عبد السلام الأسمر الذي تتلمذ على الشيخ عبد الواحد بن محمد الدوكالي، وجامع المجابرة وجامع ابي تركية، ويقصد المدينة العديد من طلبة القرآن الكريم من كل أنحاء ليبيا ودول الصحراء الأفريقية، وتعد رواية قالون عن نافع هي الرواية (القراءة) السائدة في المدينة على غرار باقي مدن ليبيا، أما الفقه فإن المذهب المالكي هو المعتمد على الرغم من أن الروايات المنقولة تذكر بأن الشيخ عبد الواحد الدوكالي كان خبيراً بالمذاهب الأربعة، وعلى المستوى العقدي فإن العقيدة الأشعرية هي السائدة كما هو الحال في باقي ليبيا، حاليا يوجد بالمدينة كلية العلوم الشرعية بمنارة الشيخ الدوكالي وهي كلية تابعة للجامعة الأسمرية للعلوم الإسلامية، ويوجد أكثر من 2500 من حفظة القرآن الكريم كاملاً.
وتضم المنطقة عدداً من الجوامع التاريخية مثل جامع المجابرة، وجامع سيدي خلفته، وجامع بن عزوز، والجامع الكبير والقدراب بقرية الأشراف وادنة، وجامع سيدي أبو مثنانة الذي كان يسمى جامع الرحمة قديماً، والجامع العتيق بسيندارة، وجامع سيدى علي الفاسي والذي يرجع عمره إلى حوالى 750 عام وهو في قرية بنى ليث.
الزائر لهذه المنطقة الجميلة يستمتع بمشاهدة شريط من الطبيعة الجميلة دائم الخضرة، لا يتغير لون النباتات والأشجار الموجودة فيه على اختلاف الفصول وتغيّرها، تزرع فيها أشجار الزيتون، وتعتمد شهرة مدينة مْــسَلَّاتة بالدرجة الأولى على زراعة أنواع عديدة من الزيتون البعلي، وتعد من بين أفضل المنتجات الزراعية في ليبيا، ومحل إقبال كبير في الأسواق الليبية والخارجية، نظرا لاستعمالاته والتي تتجاوز المطبخ، إلى الأغراض الطبية وشبه الطبية، وهذه الأصناف من الزيتون، هي الأفضل على الإطلاق لدى المستهلك، ومن بين هذه الأصناف: الراصلي، الفرقوطي، الرهط، القرقاشي، القرطومي، الرومي، الزنباعي، العنبي، البسري، الزرازي، الجبوجي، المراري، والقداوي، وصنف زيت زيتون مْــسَلَّاتة الذي انتشر عبر قرون في ليبيا، حوالي 50 صنفاً يقدر عمرها بـ 2500 عام، تم التعرف عليها بضخامة وحجم الساق، وأصناف تم التعرف عليها من خلال أسمائها؛ منها أسماء بيض الحمام الساحلي وناب الجمل، وأصناف محلية عمرها حوالي 100 عام تعود زراعتها لفترة الاستعمار الإيطالي وهي قليلة جداً، وهذه الاصناف لشجرة الزيتون المزروعة في هذه المنطقة، منتج فريد يزداد الطلب عليه في الأسواق الليبية يوما بعد يوم، وقد عرف بنفسه خارج حدود الوطن كذلك.
وتزرع بعض الزراعات الصغيرة الأخرى التي تعتمد في أغلب الأحيان على مياه الأمطار نظرا لصعوبة الوصول للمياه الجوفية (التي تصل الي عمق 400 متر) بسبب الطبيعة الجبلية للمنطقة، محاصيل القمح، والشعير، ومحاصيل الخضروات والفواكه، بالإضافة إلى ذلك يعتبر رعي الأغنام والماعز وتربية الدواجن من النشاطات المهمة بالمنطقة، كما تحتوي المنطقة على عدد كبير من معاصر الزيتون القديمة والحديثة.
وتشتهر مْــسَلَّاتة بتنوعها الثقافي وأهميتها التاريخية وجاذبيتها السياحية وتراثها المادي واللامادي وثراء المذاق والنكهات في مختلف ربوعها، وهي منطقة نجحت فيها أيضًا المنتجات المحلية في أن تروج لنفسها كرافعة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المحلية.
يوم 16 سبتمبر 2021م، أعلن برنامج منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة الخاصة بالتراث الإنساني، للإنسان والمحيط الحيوي، في اجتماعه في مدينة أبوجا عاصمة نيجيريا من 13 إلى 17 سبتمبر، وهي المرة الأولى التي يجتمع فيها المجلس في أفريقيا، إدراج محمية الشعافيين ضمن محميات للمحيط الحيوي، وتخضع هذه المحمية للحماية بموجب مرسوم حكومي منذ عام 1978م، وتبلغ مساحتها 83.060 هكتاراً، وتُعتبر موطناً لمجموعة متنوعة من الأصناف النادرة والمهددة بالانقراض مثل النباتات الطبية والعطرية وأنواع الحيوانات المدرجة في القائمة الحمراء للأنواع المهددة الصادرة عن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة مثل الضبع المخطط والسلحفاة البرية وطيور الحبارى، وتضم مجموعة متنوعة من الموائل الداعمة للأحراج الجافة والسهوب العشبية، وتُعتبر هذه المحمية الكائنة في الجزء الشمالي الشرقي من جبل نفوسة.