يعد رمضانٌ من الشهور المَّميزة لنا كمسلمين، تأخذ فيه الاستعدادات ملمحًا روحانيًا ومادياً، فهو يقوي جسر الاتصال مع الله، ومن جهة أخرى يضفي طقسه الديني تغييرًا خاصًا على الأسرة من حيث نوع الطعام، وتوقيته، وقد ظلت الأسر الليبية عبر السنين تقدم الاحتفاء الروحاني كعنصر رئيس تبنى عليه كل المظاهر الأخرى المكملة.
مع تطور الحياة، وطغيان أبجديات الحياة العصرية، تتحوَّل المظاهر المكملة إلى ضرورة لازمة، وتنتقل من خانة العادي إلى المهم، لكن ظل التبرير أن قوة التغيير، ومـعـطيات الزمن و)كل وقت وحاجته(هي عزاء التماهي مع موجات العصرنة التي اكتسحتْ تقليعات طقوس الفصول وكسرت أنماطًا متعارف عليها من العادات والتقاليد، لكن اللافت في مد الموضة وقدرتها العجيبة على قلب صورة المعقول في هذه الفورة، وتصبح علاماتِ استفهام عن مدى سطوتها في جرف وتشويه كل ما يشكل علامة أو سمة أو بطاقة شخصية للجغرافيا الليبية في مرموزها وتراثها .
البعضُ يرى أن احتضان البيئة الليبية لفلكلور الآخر أمر طبيعي وتمازج يدخل في دائرة التفاعل مع المحيط؛ فنحن لا نعيش في جزيرة مهجورة وسمة الحياة هي الاختلاط، والتأثير، والتأثر وفي النهاية لن نصبح بهوية أخرى وقد أثبت التاريخ ذلك، وفي المقابل يُحاجج الرافضون لسنة العبور أن مشغولاتِ غيرنا شعرٌ مستعارٌ لا يمنحنا الحضور ولا يقدم إلا قالب هجين مشوه استبدل «الفنار» بالفانوس، وخير دليل على ذلك حسب وجهة نظرهم كمية المقتنيات التي غزتْ السوق الليبي من الملصقات، والبالونات الغريبة، والأعلام، واسراب الإضاءة المعلقة في فاترينات المحال و«السوبرماركات»، وهي طقس بدأ حاضرًا بقوة في استقبالات شهر الرحمن، فهل حقًا انسلخ اللليبيون عن عادتهم، وتبنوا نمطًا آخر من التقاليد؟، وهل يهدد ذلك فعلاً هويتهم ؟.
يرى د.نجيب الحصادي في إحدى محاضراته عن الهوية وتحديدًا في باب علاقتنا مع الآخر أنه )عادة ما تُتهم ثقافة الهوية بطبيعتها الاقصائية النافرة ونزوعها الناكر لشرعة الاختلاف( مضيفًا : أن الأمرَ لا يخلو من مفارقة )فغالبًا ما يفصح أشياع ثقافة الهوية عن ولائهم للتسامح والاختلاف لكن ثقافتهم تخون فيما يبدو ولاؤهم(، وفي العموم يصل الحصادي بالقول )أن الاختلاف الثقافي والخصوصيات المجتمعية لا تشكل بذاتها حائلاً دون المشترك القيمي، فالاتصال المتبادل بين الثقافات ممكن لأن ما يجعل الكائن البشري إنسانًا مهمًا تناهى قدره يظل قاسمًا مشتركًا يجسر بين هذه الثقافات(.
وهنا نصل على رأي الحصادي إلى ضرورة فهم معنى الخصوصية الثقافية وكيفية استيعابها لإطلالة الآخر القريب، أو البعيد عنها. وحتى لا نستمر كثيرًا في تقليب وجهات نظر المفكرين حول هذه المسألة ارتأينا فتح نافذة أخرى للرؤية وهي الذهاب إلى الشارع والاستماع إلى آراء النَّاس .
توقفتُ عند أحد باعة الفوانيس، والتي يتحلق حولها بعض المواطنين، رجل ينحني متفحصًا مظهرها، وآخر يضع يده على رأس الفانوس وكأنما ينتظر خروج مارد، وطفلة تهمس لوالدها )بوي بوي خوذ الفانوس الصغيرون هذا شكله حلو( يجيب الاب )باهي خلينا نشوف اصبري(، تقدمتُ بدوري لأسأل الشاب صاحب البضاعة بكم الفوانيس ؟! )يجيب: أحجام وأسوام ياعمي .. الكبير بستين، والمتوسط بخمسة وأربعين، والصغير بثلاثين(، تركتُ الشاب وأنا أتساءل هل سيشتري الناس الفوانيس بهذه الاسعار، يبدو أن الأمرَ مؤكدٌ، فرب الأسرة مجبرٌ لا مخيرٌ )الأطفال( هم نقطة الضعف كذلك التقليد )فلان عنده حتى احني بنشروا(، انتقلت إلى أحد محال المقتنيات والألعاب والاكسسوارات وقد ازدحم عن آخره بالزبائن، وبالقرب من أحد اسراب الزينة الضوئية يقف مواطنٌ ترتسم على وجهه الحيرة قائلاً: هذا مش من عاداتنا .. دخيل علينا.. من أمتى نعلقوا في أسراب ضي في حياشنا في شهر رمضان ؟!( يجيب مواطن آخر يحمل قصاصات مثلثة مزركشة بجملة )رمضان كريم( : لا أرى عيباً في ذلك أخي الكريم، أضواء بسيطة الشكل تعلق وتعطي شكلاً فنياً معيناً، وترسم نوعًا من البهجة على وجوه الأطفال ) .. يرد الأول : أنا امتعاضي من استيرادنا لمقتنيات لا تمثلنا كان الأولى مثلاً صنع محلي لفلكلور يرتبط بخصوصياتنا، فبدل الفانوس، وهو عادة مصرية نجعل الفنار رمزًا للاستقبال إذا كان لا بد. إلى هنا ينتهي الجدل ويمضي كل منهم لسبيله فيما يواصل الزبائن تأمل التحف وتدفق المزيد إلى المحل .