الاولى

بين الفانوس والفنــــــــــــــار .. والشعر المستعار

عبد السلام الفقهي

يعد‭ ‬رمضانٌ‭ ‬من‭ ‬الشهور‭ ‬المَّميزة‭ ‬لنا‭ ‬كمسلمين،‭ ‬تأخذ‭ ‬فيه‭ ‬الاستعدادات‭ ‬ملمحًا‭ ‬روحانيًا‭ ‬ومادياً،‭ ‬فهو‭ ‬يقوي‭ ‬جسر‭ ‬الاتصال‭ ‬مع‭ ‬الله،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬يضفي‭ ‬طقسه‭ ‬الديني‭ ‬تغييرًا‭ ‬خاصًا‭ ‬على‭ ‬الأسرة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬نوع‭ ‬الطعام،‭ ‬وتوقيته،‭ ‬وقد‭ ‬ظلت‭ ‬الأسر‭ ‬الليبية‭ ‬عبر‭ ‬السنين‭ ‬تقدم‭ ‬الاحتفاء‭ ‬الروحاني‭ ‬كعنصر‭ ‬رئيس‭ ‬تبنى‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬المظاهر‭ ‬الأخرى‭ ‬المكملة‭.‬

مع‭ ‬تطور‭ ‬الحياة،‭ ‬وطغيان‭ ‬أبجديات‭ ‬الحياة‭ ‬العصرية،‭ ‬تتحوَّل‭ ‬المظاهر‭ ‬المكملة‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬لازمة،‭ ‬وتنتقل‭ ‬من‭ ‬خانة‭ ‬العادي‭ ‬إلى‭ ‬المهم،‭ ‬لكن‭ ‬ظل‭ ‬التبرير‭ ‬أن‭ ‬قوة‭ ‬التغيير،‭ ‬ومـعـطيات‭ ‬الزمن‭ ‬و‭)‬كل‭ ‬وقت‭ ‬وحاجته‭(‬هي‭ ‬عزاء‭ ‬التماهي‭ ‬مع‭ ‬موجات‭ ‬العصرنة‭ ‬التي‭ ‬اكتسحتْ‭ ‬تقليعات‭ ‬طقوس‭ ‬الفصول‭ ‬وكسرت‭ ‬أنماطًا‭ ‬متعارف‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد،‭ ‬لكن‭ ‬اللافت‭ ‬في‭ ‬مد‭ ‬الموضة‭ ‬وقدرتها‭ ‬العجيبة‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬صورة‭ ‬المعقول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفورة،‭ ‬وتصبح‭ ‬علاماتِ‭ ‬استفهام‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬سطوتها‭ ‬في‭ ‬جرف‭ ‬وتشويه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يشكل‭ ‬علامة‭ ‬أو‭ ‬سمة‭ ‬أو‭ ‬بطاقة‭ ‬شخصية‭ ‬للجغرافيا‭ ‬الليبية‭ ‬في‭ ‬مرموزها‭ ‬وتراثها‭ .‬

البعضُ‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬احتضان‭ ‬البيئة‭ ‬الليبية‭ ‬لفلكلور‭ ‬الآخر‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬وتمازج‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬المحيط؛‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬مهجورة‭ ‬وسمة‭ ‬الحياة‭ ‬هي‭ ‬الاختلاط،‭ ‬والتأثير،‭ ‬والتأثر‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬لن‭ ‬نصبح‭ ‬بهوية‭ ‬أخرى‭ ‬وقد‭ ‬أثبت‭ ‬التاريخ‭ ‬ذلك،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬يُحاجج‭ ‬الرافضون‭ ‬لسنة‭ ‬العبور‭ ‬أن‭ ‬مشغولاتِ‭ ‬غيرنا‭ ‬شعرٌ‭ ‬مستعارٌ‭ ‬لا‭ ‬يمنحنا‭ ‬الحضور‭ ‬ولا‭ ‬يقدم‭ ‬إلا‭ ‬قالب‭ ‬هجين‭ ‬مشوه‭ ‬استبدل‭ ‬‮«‬الفنار‮»‬‭ ‬بالفانوس،‭ ‬وخير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬حسب‭ ‬وجهة‭ ‬نظرهم‭ ‬كمية‭ ‬المقتنيات‭ ‬التي‭ ‬غزتْ‭ ‬السوق‭ ‬الليبي‭ ‬من‭ ‬الملصقات،‭ ‬والبالونات‭ ‬الغريبة،‭ ‬والأعلام،‭ ‬واسراب‭ ‬الإضاءة‭ ‬المعلقة‭ ‬في‭ ‬فاترينات‭ ‬المحال‭ ‬و«السوبرماركات‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬طقس‭ ‬بدأ‭ ‬حاضرًا‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬استقبالات‭ ‬شهر‭ ‬الرحمن،‭ ‬فهل‭ ‬حقًا‭ ‬انسلخ‭ ‬اللليبيون‭ ‬عن‭ ‬عادتهم،‭ ‬وتبنوا‭ ‬نمطًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬التقاليد؟،‭ ‬وهل‭ ‬يهدد‭ ‬ذلك‭ ‬فعلاً‭ ‬هويتهم‭ ‬؟‭.‬

يرى‭ ‬د‭.‬نجيب‭ ‬الحصادي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬محاضراته‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬علاقتنا‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬أنه‭ )‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تُتهم‭ ‬ثقافة‭ ‬الهوية‭ ‬بطبيعتها‭ ‬الاقصائية‭ ‬النافرة‭ ‬ونزوعها‭ ‬الناكر‭ ‬لشرعة‭ ‬الاختلاف‭( ‬مضيفًا‭ : ‬أن‭ ‬الأمرَ‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬مفارقة‭ )‬فغالبًا‭ ‬ما‭ ‬يفصح‭ ‬أشياع‭ ‬ثقافة‭ ‬الهوية‭ ‬عن‭ ‬ولائهم‭ ‬للتسامح‭ ‬والاختلاف‭ ‬لكن‭ ‬ثقافتهم‭ ‬تخون‭ ‬فيما‭ ‬يبدو‭ ‬ولاؤهم‭(‬،‭ ‬وفي‭ ‬العموم‭ ‬يصل‭ ‬الحصادي‭ ‬بالقول‭ )‬أن‭ ‬الاختلاف‭ ‬الثقافي‭ ‬والخصوصيات‭ ‬المجتمعية‭ ‬لا‭ ‬تشكل‭ ‬بذاتها‭ ‬حائلاً‭ ‬دون‭ ‬المشترك‭ ‬القيمي،‭ ‬فالاتصال‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬ممكن‭  ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭ ‬إنسانًا‭ ‬مهمًا‭ ‬تناهى‭ ‬قدره‭ ‬يظل‭ ‬قاسمًا‭ ‬مشتركًا‭ ‬يجسر‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الثقافات‭(.‬

وهنا‭ ‬نصل‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬الحصادي‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬فهم‭ ‬معنى‭ ‬الخصوصية‭ ‬الثقافية‭ ‬وكيفية‭ ‬استيعابها‭ ‬لإطلالة‭ ‬الآخر‭ ‬القريب،‭ ‬أو‭ ‬البعيد‭ ‬عنها‭. ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬نستمر‭  ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬تقليب‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬المفكرين‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬ارتأينا‭ ‬فتح‭ ‬نافذة‭ ‬أخرى‭ ‬للرؤية‭ ‬وهي‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬والاستماع‭ ‬إلى‭ ‬آراء‭ ‬النَّاس‭ .‬

توقفتُ‭ ‬عند‭ ‬أحد‭ ‬باعة‭ ‬الفوانيس،‭ ‬والتي‭ ‬يتحلق‭ ‬حولها‭ ‬بعض‭ ‬المواطنين،‭ ‬رجل‭ ‬ينحني‭ ‬متفحصًا‭ ‬مظهرها،‭ ‬وآخر‭ ‬يضع‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الفانوس‭ ‬وكأنما‭ ‬ينتظر‭ ‬خروج‭ ‬مارد،‭ ‬وطفلة‭ ‬تهمس‭ ‬لوالدها‭ )‬بوي‭ ‬بوي‭ ‬خوذ‭ ‬الفانوس‭ ‬الصغيرون‭ ‬هذا‭ ‬شكله‭ ‬حلو‭( ‬يجيب‭ ‬الاب‭ )‬باهي‭ ‬خلينا‭ ‬نشوف‭ ‬اصبري‭(‬،‭ ‬تقدمتُ‭ ‬بدوري‭ ‬لأسأل‭ ‬الشاب‭ ‬صاحب‭ ‬البضاعة‭ ‬بكم‭ ‬الفوانيس‭ ‬؟‭! )‬يجيب‭: ‬أحجام‭ ‬وأسوام‭ ‬ياعمي‭ .. ‬الكبير‭ ‬بستين،‭ ‬والمتوسط‭ ‬بخمسة‭ ‬وأربعين،‭ ‬والصغير‭ ‬بثلاثين‭(‬،‭ ‬تركتُ‭ ‬الشاب‭ ‬وأنا‭ ‬أتساءل‭ ‬هل‭ ‬سيشتري‭ ‬الناس‭ ‬الفوانيس‭ ‬بهذه‭ ‬الاسعار،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الأمرَ‭ ‬مؤكدٌ،‭ ‬فرب‭ ‬الأسرة‭ ‬مجبرٌ‭ ‬لا‭ ‬مخيرٌ‭ )‬الأطفال‭( ‬هم‭ ‬نقطة‭ ‬الضعف‭ ‬كذلك‭ ‬التقليد‭ )‬فلان‭ ‬عنده‭ ‬حتى‭ ‬احني‭ ‬بنشروا‭(‬،‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬محال‭ ‬المقتنيات‭ ‬والألعاب‭ ‬والاكسسوارات‭ ‬وقد‭ ‬ازدحم‭ ‬عن‭ ‬آخره‭ ‬بالزبائن،‭ ‬وبالقرب‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬اسراب‭ ‬الزينة‭ ‬الضوئية‭ ‬يقف‭ ‬مواطنٌ‭ ‬ترتسم‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬الحيرة‭ ‬قائلاً‭: ‬هذا‭ ‬مش‭ ‬من‭ ‬عاداتنا‭ .. ‬دخيل‭ ‬علينا‭.. ‬من‭ ‬أمتى‭ ‬نعلقوا‭ ‬في‭ ‬أسراب‭ ‬ضي‭ ‬في‭ ‬حياشنا‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬؟‭!(  ‬يجيب‭ ‬مواطن‭ ‬آخر‭ ‬يحمل‭ ‬قصاصات‭ ‬مثلثة‭ ‬مزركشة‭ ‬بجملة‭ )‬رمضان‭ ‬كريم‭( : ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬عيباً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أخي‭ ‬الكريم،‭ ‬أضواء‭ ‬بسيطة‭  ‬الشكل‭ ‬تعلق‭ ‬وتعطي‭ ‬شكلاً‭ ‬فنياً‭ ‬معيناً،‭ ‬وترسم‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬البهجة‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬الأطفال‭ ) .. ‬يرد‭ ‬الأول‭ : ‬أنا‭ ‬امتعاضي‭ ‬من‭ ‬استيرادنا‭ ‬لمقتنيات‭ ‬لا‭ ‬تمثلنا‭ ‬كان‭ ‬الأولى‭ ‬مثلاً‭ ‬صنع‭ ‬محلي‭ ‬لفلكلور‭ ‬يرتبط‭ ‬بخصوصياتنا،‭ ‬فبدل‭ ‬الفانوس،‭ ‬وهو‭ ‬عادة‭ ‬مصرية‭ ‬نجعل‭ ‬الفنار‭ ‬رمزًا‭ ‬للاستقبال‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭. ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬ينتهي‭ ‬الجدل‭ ‬ويمضي‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬لسبيله‭ ‬فيما‭ ‬يواصل‭ ‬الزبائن‭ ‬تأمل‭ ‬التحف‭ ‬وتدفق‭ ‬المزيد‭ ‬إلى‭ ‬المحل‭ .‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى