ثقافة

قراءة «عربية في إيران»: نظرةٌ على الشعب والثقافة والسياسة بعيون محيادة

سميرة البوزيدي

‭* ‬طاهر‭ ‬الفراح‭ ‬

في‭ ‬كتابها‭ ‬الصادر‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬‮«‬الساقي‮»‬،‭ ‬تحاول‭ ‬ندى‭ ‬الأزهري‭ ‬تقديم‭ ‬صورة‭ ‬مختلفة‭ ‬عما‭ ‬عهدناه‭ ‬عن‭ ‬إيران،‭ ‬مبتعدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬صورة‭ ‬نمطية‭ ‬تشربناها‭ ‬في‭ ‬طفولتن،ا‭ ‬أو‭ ‬عودنا‭ ‬عليها‭ ‬الإعلام؛‭ ‬فهي‭ ‬رؤية‭ ‬صادقة‭ ‬وبعيدة‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬تحيزات،‭ ‬ولا‭ ‬يحركها‭ ‬سوى‭ ‬الفضول‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬والاطلاع‭. ‬وعبر‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬واليوميات،‭ ‬تأخذنا‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬المليئة‭ ‬بالتأملات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬فهم‭ ‬حضارة‭ ‬وسياسة‭ ‬بلد‭ ‬معقد‭ ‬مثل‭ ‬إيران‭. ‬

نستطيع‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬السمة‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬هي‭ ‬الحضور‭ ‬البارز‭ ‬للشعب‭ ‬الإيراني‭ ‬بجميع‭ ‬مكوناته‭ ‬وطبقاته‭. ‬فنتعرف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجربة‭ ‬الأزهري‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬طهران‭ ‬على‭ ‬الباعة‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬وسائقي‭ ‬الأجرة‭ ‬وحتى‭ ‬العمال‭ ‬الأجانب‭.‬

نكتشف‭ ‬نظرة‭ ‬هؤلاء‭ ‬للدين‭ ‬وتعاملهم‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬اختيار‭ ‬شخصي‭ ‬وروحاني‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭. ‬ففي‭ ‬مقابل‭ ‬اختيار‭ ‬كثيرين‭ ‬عدم‭ ‬صوم‭ ‬رمضان،‭ ‬نرى‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬تلعبه‭ ‬الأضرحة‭ ‬والمقامات‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭. ‬وهذه‭ ‬الرؤية‭ ‬تتعارض‭ ‬كليًا‭ ‬مع‭ ‬تصورات‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة‭ ‬للدين،‭ ‬وهذه‭ ‬السلطة‭ ‬نفسها‭ ‬تلقى‭ ‬معارضة‭ ‬ملحوظة‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬الطبقات‭. ‬فبمجرد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الشخص‭ ‬أن‭ ‬محدثه‭ ‬أجنبي،‭ ‬فإنه‭ ‬يأخذ‭ ‬راحته‭ ‬ويفصح‭ ‬عما‭ ‬يعتقده‭ ‬بكل‭ ‬صراحة‭. ‬لكن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يفاجئ‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬الإيراني‭ ‬هو‭ ‬نظرته‭ ‬للعرب‭ ‬وللثقافة‭ ‬العربية‭. ‬فجزء‭ ‬كبير‭ ‬منه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يحمل‭ ‬ضغائن‭ ‬الماضي‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ )‬الاحتلال‭ ‬العربي‭( ‬أفسد‭ ‬عليهم‭ ‬لغتهم‭ ‬ودينهم‭ ‬ويحملهم‭ ‬مسؤولية‭ ‬ما‭ ‬هم‭ ‬فيه‭. ‬وهذا‭ ‬الإحساس‭ ‬نراه‭ ‬بوضوح‭ ‬حتى‭ ‬عند‭ ‬الطبقة‭ ‬المتعلمة‭ ‬والمثقفة‭ ‬التي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تحتك‭ ‬وتتعامل‭ ‬معها‭ ‬الكاتبة‭ ‬بحكم‭ ‬عملها‭. ‬والأكيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الآراء‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬كامل‭ ‬الشعب‭ ‬الإيراني،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬المسألة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬تشكل‭ ‬جزءًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬الشعبي‭ ‬وتحظى‭ ‬بمناصرة‭ ‬دائمة‭ ‬من‭ ‬الصحافة‭ ‬والإعلام‭. ‬

وعند‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬فنحن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬بلد‭ ‬يعود‭ ‬تاريخه‭ ‬لآلاف‭ ‬السنين‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وهو‭ ‬شعب‭ ‬يعتز‭ ‬جدًا‭ ‬بحضارته‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬الاحتفال‭ ‬السنوي‭ ‬الأبرز‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬النوروز‮»‬‭ ‬تعود‭ ‬أصوله‭ ‬للديانة‭ ‬الزرادشتية‭ ‬القديمة‭. ‬وقراءة‭ ‬تفاصيل‭ ‬وطقوس‭ ‬هذا‭ ‬العيد‭ ‬داخل‭ ‬الكتاب‭ ‬تعطي‭ ‬لمحة‭ ‬عن‭ ‬الرابط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬الإيراني‭ ‬وتاريخه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬حتى‭ ‬سلطة‭ ‬الولي‭ ‬الفقيه‭ ‬منعه‭. ‬

أما‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬فيطول‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬الإيرانية‭ ‬وتطوراتها‭ ‬مع‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بآراء‭ ‬المتخصصين‭ ‬والأدباء‭ ‬الذين‭ ‬قابلتهم‭ ‬الكاتبة،‭ ‬وعن‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬والشعراء‭ ‬ومشكلات‭ ‬النشر‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الكتَّاب،‭ ‬مع‭ ‬تخصيص‭ ‬فصل‭ ‬كامل‭ ‬عن‭ ‬شاعر‭ ‬إيران‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬حافظ‭ ‬الشيرازي‮»‬‭ ‬وقصائده‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الإيراني‭ ‬وتحظى‭ ‬بالتبجيل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجميع‭. ‬فدواوينه‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تُطبع‭ ‬وتحقَّق‭ ‬أعلى‭ ‬المبيعات‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬وعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬السينمائي،‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬نشرت‭ ‬المؤلفة‭ ‬فيه‭ ‬كتابًا‭ ‬كاملاً‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬‮«‬المدى‮»‬،‭ ‬نتعرف‭ ‬على‭ ‬التيارات‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬الإيرانية‭ ‬وأهم‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬هذه‭ ‬السينما‭ ‬ويعطيها‭ ‬ثقلًا‭ ‬ومكانة‭ ‬عالمية‭. ‬ونتعرف‭ ‬على‭ ‬المخرجين‭ ‬المحليين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يحظون‭ ‬بالتسليط‭ ‬الكافي‭ ‬من‭ ‬الإعلام‭ ‬ويتم‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬فجر‮»‬‭ ‬السينمائي،‭ ‬وهو‭ ‬الحدث‭ ‬الأهم‭ ‬محليًا‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬عشاق‭ ‬الأفلام‭. ‬ولكل‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬روائع‭ ‬هذه‭ ‬السينما،‭ ‬ما‭ ‬عليه‭ ‬سوى‭ ‬تتبع‭ ‬الترشيحات‭ ‬التي‭ ‬تفتتح‭ ‬بها‭ ‬الأزهري‭ ‬كل‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬كتابها‭. ‬

يستحيل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬إيران‭ ‬اليوم‭ ‬بدون‭ ‬ذكر‭ ‬الدور‭ ‬السلبي‭ ‬الذي‭ ‬تلعبه‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سياساتها‭ ‬الخارجية،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬مفروغ‭ ‬منه‭ ‬تقريبًا،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬مقدار‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬الداخلية‭ ‬لهذا‭ ‬البلد؟‭ ‬تحكي‭ ‬الأزهري‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الفصول‭ ‬عن‭ ‬صعوبة‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تصريح‭ ‬لتركيب‭ ‬صحن‭ ‬لاقط،‭ ‬وفي‭ ‬الفصل‭ ‬نفسه‭  ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬الانتشار‭ ‬الغريب‭ ‬لكاميرات‭ ‬المراقبة‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭. ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬القمعية‭ ‬تتعدى‭ ‬المجال‭ ‬العام‭ ‬وتفرض‭ ‬رقابتها‭ ‬الصارمة‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬والسينما،‭ ‬وتتجلى‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬إرشاد،‭ ‬السلطة‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬الأخلاق‭ ‬العامة‭ ‬والمعروفة‭ ‬بقمعها‭ ‬للنساء‭ ‬خاصة‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬إيران‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬الانتخابية‭ ‬وما‭ ‬يرافقها‭ ‬من‭ ‬صخب‭ ‬شعبي‭ ‬وصراع‭ ‬بين‭ ‬المحافظين‭ ‬والإصلاحيين،‭ ‬ويوجد‭ ‬فصل‭ ‬كامل‭ ‬مخصَّص‭ ‬للحديث‭ ‬بالتفصيل‭ ‬عما‭ ‬سمعته‭ ‬وشاهدته‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬2009‭ ‬وما‭ ‬جرى‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬مظاهرات‭ ‬واتهامات‭ ‬بالتزوير‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يعطينا‭ ‬صورةً‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحًا‭ ‬عن‭ ‬إيران‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬وما‭ ‬تتبعه‭ ‬من‭ ‬سياسة‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬دكتاتورية‭ ‬عرفها‭ ‬التاريخ،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الشكليات‭ ‬التي‭ ‬توهم‭ ‬الشعب‭ ‬وتمنعه‭ ‬من‭ ‬التمرد‭ ‬والعصيان‭. ‬

ختامًا،‭ ‬وبنظرة‭ ‬سريعة‭ ‬على‭ ‬المكتبة‭ ‬العربية،‭ ‬نلاحظ‭ ‬أنها‭ ‬تمتلئ‭ ‬بكتب‭ ‬نقد‭ ‬الاستشراق‭ ‬وما‭ ‬ترتب‭ ‬عنه‭ ‬تاريخيًا‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬نزال‭ ‬نعاني‭ ‬بعض‭ ‬تبعاته‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭. ‬ولكن‭ ‬قلّما‭ ‬دار‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الصور‭ ‬المتخيلة‭ ‬التي‭ ‬شكلناها‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الحضارات‭ ‬والشعوب،‭ ‬والتي‭ ‬بدورها‭ ‬تشكل‭ ‬اليوم‭ ‬عائقًا‭ ‬يمنعنا‭ ‬من‭ ‬الاندماج‭ ‬والتفاعل‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭ ‬وتقبل‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬للتسامح‭ ‬والمساواة،‭…‬إلخ‭. ‬وبالطبع،‭ ‬حل‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬سوى‭ ‬بتجاوز‭ ‬صراعات‭ ‬الماضي‭ ‬والتجرد‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مسلمات‭ ‬تعيق‭ ‬رؤيتنا‭ ‬لعالمنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجحت‭ ‬فيه‭ ‬الأزهري‭ ‬بكل‭ ‬حيادية‭ ‬وصدق‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى