تتعدَّد الأسواق في العالم، ولكل مدينة سوق يتسم بطابع خاص ومميز، فهذه الأسواق تحكي تاريخ وقصص المدن الاقتصادية، والاجتماعية، وتاريخها الذي يعود إلى ازمان بعيدة، وبحكم التغيرات، تطورت الأسواق حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
دأب سكان وسط مدينة بنغازي على التجهيز والاستعداد لاستقبال شهر رمضان المبارك قبل حلوله بعدة أسابيع، حيث تبدأ الاستعدادات في البيوت والأسواق للاحتفال بهذا الشهر الفضيل بطقوس خاصة، توارثوها ممن سبقوهم.
فــ شهر رمضان في بنغازي له طعمٌ مختلفٌ، طعم مفعم برائحة التراث والتقاليد الجميلة، ومسكون بروح الأجداد، ومزين بتواصل الأجيال، وتمسكهم بتلك العادات التي اعطتْ نكهه خاصة لمدينة بنغازي، ولنَّاسها وأهلها الحقيقيين الطيبين.
تبقى لشهر رمضان لدى أهالنا في مدينة بنغازي عادات وتقاليد وطقوس وذكريات، فهو شهر صلة الرحم واللقاءات الأسرية وجلسات السمر حتى السحور، ومن أبرز هذه العادات التَّواصل الاجتماعي والتَّزاور بين الأسر والأقارب والأصدقاء، واللمَّة في بيت العائلة، وموائد الإفطار الجماعيَّة داخل البيوت وفي الساحات لإفطار الصائمين، وخاصة المقيمين في المدينة، وغيرها من العادات والتقاليد التي يعتبرها أهلنا موروثًا أصيلًا توارثته الأجيال، ولا يزالون متمسكين بها رغم تغيُّر نمط الحياة في وقتنا الحالي، وتتميَّز هذه العادات بأنَّها ذات طابع خاص يشعر من خلاله أهالنا بأنَّها تغمرهم بالإحساس والرَّحمة والسَّعادة، وذلك لأن المدينة تمثل فسيفساء سكانية لكل سكان ليبيا، فهي تمثل وطنًا في مدينة.
في مدينة بنغازي ووسط المدينة القديمة يطل (سُوْق الحوت)، على ميدان عريق سمي باسمه، ليصبح أحد أهم معالم المدينة، وظاهرة تجارية حرفية ذات بعد اجتماعي ومركزا،ً حضارياً، ومعلماً أمتد تأثيره ونشاطه في المدينة وضواحيها، وسُوْقًا عامرًا بالحركة والنشاط، وذو طابع خاصّ جداً مِن حيث تاريخه وعراقته، بالإضافة إلى ذلك أجواء الصفاء والمودة السّائدة بين الباعة وزبائنهم، وأجواؤه المفعمة بالتعاون والألفة والمحبة، ففي هذا المكان يتواجد كل عام سوق شعبي تميز بالموروث الرمضاني البنغازي، ودائمًا ما يكون له عالم خاص ومميز لدى سكان المدينة الباسلة، حيث يعد ميدان «سوق الحوت» أحد معالم المدينة القديمة في مدينة بنغازي، هنا تجد معلمًا مهمًا وتقليدًا استمر لسنوات طويلة، هو سوق رمضان في سوق الحوت بوسط المدينة القديمة، والذي يعد مهرجان تسوق شعبي في شهر رمضان، وهو السوق الذي أصبح ملتقى سنويًا، وعلامة بنغازية مسجلة، بل ومن العادات الرمضانية البنغازية المميزة، ودونه يبقى رمضان دون (طعم)، وسُمِيَ بهذا الاسم لوجوده في ميدان سوق الحوت المخصَّص لبيع الأسماك، ويقع ميدان (سوق الحوت) في وسط مدينة بنغازي القديمة، (البلاد)، بموقعه الاستراتيجي في المدينة حيث يتوسط شارع عمر المختار، ميدان شهير في المدينة يرتبط عبر شارع العقيب مع ميدان شهير آخر هو ميدان الشجرة، من الميادين المزدحمة المشهورة في المدينة، ويتفرع منه شارع العقيب، وشارع المهدوي، وشارع غريبيل، وشارع فيا تورينو، ومن الشرق ميدان البلدية، وجامع الشابي والزاوية الرفاعية وكورنيش الشابى من الشمال، وعدة أزقة فرعية تربطه بعدة شوارع ملاصقة للسوق.
مسرح نابض بالحياة، كل ما فيه هو جزءٌ من مسرحية إنسانية عنوانها الفرح والعطاء، الفرح بقدوم الشهر الكريم، والعطاء يأتي من حركة البيع والشراء، حيث يتحول الميدان في كل عام طيلة أيام شهر رمضان إلى سوق شعبي يتجمع فيه الباعة من أبناء المدينة لبيع منتجاتهم الطازجة من مختلف أنواع المواد الغذائية، وتنصب الطاولات الطويلة التي تمتد من نهاية شارع العقيب، إلى الحديقة الملاصقة للزاوية الرفاعية على شط بحر الشابي، فوق هذه الطاولات توضع كل ما يحتاجه الصائم، لإعداد مائدة إفطار شهية بعد صيام يوم كامل، ويجد فيه الصائم كل ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات والحلويات، يجد الخبز الطازج الساخن بأنواعه (قمح، شعير، تنور)، ويجد المخلَّلات والزيتون والهريسة العربية الحارة، والمسَّير (منقوع الفلفل الأخضر) ويجد أنواعًا مختلفة من التمور الليبية، ويجد الألبان والحليب الطازج والعصائر والمشروبات بأنواعها، إلى جانب الحلويات الرمضانية والمكسرات والأجبان بأنواعها، والعسل الطبيعي وحتى ألعاب الأطفال.
ويبتكر الباعة طرقًا جديدة ومتنوعة في كل مرة لعرض بضائعهم لجلب الزبائن؛ فتراهم يزينون طاولاتهم، والكل ينادي على بضاعته بطريقة محبَّبة وطريفة ومغرية ومميزة، وساخرة أحيانًا، وسط الجلبة والزحام خاصة قبل أذان المغرب بدقائق، فترى بائع اللبن يقول (هيا قرب تعال.. يا شراي.. هنا.. اللبن)، وترى بائع الخبزة ينادي ويقول (هيا قرب تعال على خبزة الشعير الساخنة).. وتجد الأحاديث الودية بين البائع والزبون، ولا يخلو الأمر من بعض المشاغبات، والمشاكسات ومعاكسة (المحششين)، ورمي خط ولوح، من هنا وهناك، وسط الجلبة والزحام خاصة قبل أذان صلاة المغرب بدقائق، لعل أشهر الباعة في السوق سي عبد السلام القذافي والشهير بــعبد السلام طرازان أحد رموز سوق الحوت وأحد معالم البلاد في بنغازي، شخص غني عن التعريف يعرفه كل (عيال البلاد) وكل مرتادي السوق بالهريسة العربية التي يبيعها والتي غالباً ما يضع بجانبها الكروية ويضيف بعضها من حين إلى آخر أمام المارة في سوق الحوت ليجذب (الحشاشين) بهذه الطريقة المغرية، وعرف بأنه من هواة تربية الطيور الجارحة، فعندما تدخل إلى شارع محمد موسى حيث يوجد بيته، تشاهد الطيور الجارحة الكبيرة المقيدة، والمغمضة العينين أمام بيت عبد السلام فوق إحدى السيارات.
بالمناسبة كلمة (حشاش) في لهجة أهل بنغازي تطلق على الشخص الذي يرغب بشراء كل ما تقع عليه عيناه، فيقال له محشش، ولا علاقة لها بالمخدرات، وكذلك تطلق على الشخص العصبي، وكان الصغار عندما يشاهدون شخص (محشش) يشاكسونه بعبارات طريفة، (حشاش في رمضان ديروا كرشته عصبان)، موروث اجتماعي كان يميز هذه المدينة، قبل أن تطاله الشوائب، وبالرغم من كل هذا لازال هناك من يتمسك بهذا الموروث.