التراثيةرتوش

الزيت عماد البيت: راجيني بعشاك.. لين يجي الزيت من غريان

فرج غيث

في ليبيا يستطيع كلُ مَنْ يسافر عبر الطرق البرية العابرة للمدن الليبية المشهورة بزراعة أشجار الزيتون، أن يشم رائحة زيت الزيتون، ويلاحظ حالة من انشغال المواطنين بهذا الموسم السنوي، فشجرة الزيتون تعد من الأشجار المعمّرة، إذ يتجاوز عمرها أكثر من مائة عام، وربما أكثر في بعض المناطق، مثل مدن )غريان وبني وليد ومسلاته(، التي تشتهر بمزارعها الوارفة الظلال، والتي تمتدّ مساحاتها الخضراء على مرمى البصر.

 هذه المدن التي عرفت عبر تاريخها الطويل بالنشاط الزراعي لخصوبة أراضيها، اشتهرت تاريخيا بزراعة شجر الزيتون، فعلي الطريق تمتد الأراضي المليئة بأشجار الزيتون، وفي هذه المدن توجد المئات من معاصر الزيت منها الحجرية، وعدد هائل من معاصر الزيتون العتيقة، ففي منطقه الخضراء والداوون في مدينة ترهونة فقط ومن خلال رحلتين كشفيتين، اكتشف أكثر من 262 معصرة زيتون رومانية وهو ما يفوق ضعف عدد المعاصر المكتشفة في شمال أفريقيا.  لقد اهتم أهلنا بشجرة الزيتون لمعرفتهم بأنها شجرة مباركة وذات قيمة كبيرة وثمار مفيدة، وحرصوا على الاهتمام والعناية بها، واستخدموها منذ القدم لاحتوائها على العديد من الفوائد، كما عرفت ثمار الزيتون كثمار طبية تعالج الكثير من الأمراض، عدا عن مذاقها المميز الذي جعلها تقدم على مختلف الموائد، وباعتبارها قوت ودواء ودفء، ولها مكانة كبيرة لدى أهلنا في ليبيا بسبب ذكرها في القرآن الكريم.

ومنذ بداية شهر أكتوبر من كل عام، تشد العائلات الليبية، خصوصاً من أصحاب المزارع الرحّل إلى حقولهم، للمشاركة في قطف ثمار الشجرة المباركة، ويحلو للكثير من الأُسر المُنشغلة بقطف الزيتون، أو فرزه على البُسط قبل تعبئته في أكياس من الخيش (الشوال)، التغني بأهازيج التراث الشعبية، تعبيراً عن فرحتهم بالمحصول الوفير، ويُضرَب بزهرة الزيتون المثل في جلب الخير، لأن مصدرها الشجرة المباركة، ودائما ما يعبر أهلنا في هذه المدن عن فرحتهم بالإنتاج الذي يعولون عليه في حل كثير من الأمور المالية المؤجلة لجميع أفراد الأسرة.

تشتهر مدينة غريان تاريخياً بزراعة هذه الشجرة، ويعيش سكانها على الزراعة أساسًا، حيث تنتشر أشجار الزيتون في كل أرض غير مأهولة في غريان، مدينة تميزت بخصوبة تربة ارضها السهلية الحمراء المتموجة وزيوتها ذات الجودة العالية التي تستخرج من شجرة الزيتون منذ القدم والدليل على ذلك الآثار المنتشرة لمعاصر الزيتون بكثرة في المدينة وأنحائها، وإليها نُسب المثل الشعبي الشائع في ليبيا والذي يقول: (راجيني يا علي بعشاك .. لين يجيء الزيت من غريان).

ويقال هذا المثل في مناطق الساحل باعتبار ان مدينة غريان اشتهرت بأجود أنواع زيت الزيتون، لكنها بعيدة عنهم بمعايير المواصلات أيام زمان، وبالتالي يقال عند نفاد الصبر باعتبار ان جلب الزيت من مدينة غريان لمدينة طرابلس او مدينة الزاوية مثلا يأخذ وقتا طويلا، ولا مجال لانتظاره ليكون حاضرا وقت العشاء، اي قريبا، وبالمعني الليبي: (دير لروحك حل وما تراجي حد وما تعبى على حد)، أي (اصنع حلا لنفسك، ولا تنتظر أحد، ولا تعتمد على أحد). فالزيت لا يستغنى عنه في البيت الليبي، لهذا يساق التعبير لاستغراب الانتظار، وكيف يظل ينتظر شيئا بعيدا لحاجة ملحة كالعشاء الذي حان وقت تناوله، هل ينتظر طعام العشاء حتى يأتي الزيت من غريان، على بعد المسافة، وصعوبة وسائل الموصلات في ذلك الزمن.

ولأن كل ما يربط المجتمعات المغاربية واحد، ففي تونس يقول أحبتنا وأخوتنا (استنى يا دجاجة لين يجيك القمح من باجة) وهذا المثل بنفس المعنى.

مدينة غريان عرفت واشتهرت بجمالها الاخاذ وطيبة سكانها، تقع في الجزء الشمالي الغربي لليبيا، وفي اعلى نقطة على قمة جبل نفوسة، بسفوحه الشمالية ذات الجروف الحادة، التي تنحدر تدريجياً في اتجاه الحمادة الحمراء جنوباً، ويقل ارتفاع هذا الجبل كلما اتجهنا شرق غريان حتى يلتقي بالبحر المتوسط ناحية ساحل مدينة الخمس، وتبعد بحوالي 75 كم جنوب مدينة طرابلس، ترتفع فجأة من السهول سفوح جبل غريان في مشهد رائع ذي طبيعة جبلية جميلة وهناك الطريق الجبلي الملتوي (الشليوني) والمصمم بشكل دقيق والذي يقود إلي أعلى قمة الجبل باتجاه مدينة غريان التي ترتفع بحوالي 981 متراً فوق سطح البحر، يحدها من الشمال مدينة العزيزية ومن الشرق مدينتي ترهونة ومسلاتة ومن الجنوب مدينتي بني وليد ومزدة، ومن الغرب مدينة يفرن. 

حدثنا أصدقائنا بأن المدينة تنقسم إلى قسمين عليا وسفلى، فالقسم الجنوبي من الكميشات إلى نهاية جنوب غريان هو غريان العليا، ومن الكميشات إلى نهاية شمال غريان من ناحية قطيس هو غريان السفلى.

وفي تقارير نشرته البعثة الألمانية بعد الغزو الإيطالي لليبيا في سنة 1912م عن الأوضاع في غرب ليبيا عندما استقرت في غريان وأقامت مشفى ميداني بها، حيث ذكر الطبيب العسكري فريتس: عند نفاد المراهم لجأنا إلى زيت الزيتون في جميع الأمراض الجلدية وتوصلنا بذلك إلى نجاحات فائقة ومنها علاج الأكزيما عند الأطفال، وتوصلنا إلى الشفاء التام بعد ثمانية أو 14 يوما على الأغلب. وذكر أيضاً أنه كان في حوزتنا باستمرار زيت الزيتون فاخر فزيت جبل غريان ذو فائدة عظيمة. فهذه المنطقة مشهورة بغراسة الزيتون ولها تاريخ في ذلك. وزراعة الزيتون فيها تاريخية تقريباً 99 % أشجار معمرة، وأصناف الزيتون بها محلية أصيلة الموطن تقريباً 99%، وزراعة الزيتون زراعة بيولوجية 99 % تقريباً لم ترش بميد حشري، وزراعة بعلية  99% مروية بمياه الأمطار، و99 % زراعة تراثية في عملية القطاف وجمع الثمار لم يعتمد على القطف الكيماوي أو الآلي، بل يكون ذلك في أجواء عائلية اجتماعية مصحوبة بـ (براد الشاهي) أبريق الشاي، وأهازيج تبعث النشاط وتبعد السآم والملل  وتروّح عن النفس بصوت معبر في تلقائية وبدون أي تكليف:

لقـطْ يا حلنقطْ  يا ملنقـطْ   ***       إللي يبـي الزيـت يلقـــطْ

وإللي ما يبيش يمشـي يروحْ  ***    ما يلقاش بـيش يفــوحْ

لا عشـــاه لا غـــداه            ***  كـــان حليـبـةْ مــــعـزاهْ

تُزرع شجرة زيتون في أكثر من 56 دولة وتتوزع منتجاتها على أكثر من 174 دولة، ووفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة FAO فإن ليبيا تحتل المرتبة الحادية عشرة على مستوى الإنتاج عالمياً وعربيا خلف المغرب وتونس والجزائر، ولا توجد إحصائيات حديثة في ليبيا، إلا أن هناك مَن يؤكد على وجود أكثر من عشرة ملايين شجرة زيتون في عموم البلاد، وأثبت علميا بأن الزيتون الليبي من أفضل الأصناف في العالم، وتنتج من الزيتون في ليبيا أجود أنواع الزيوت، ويوجد في ليبيا أنواع نادرة من أشجار الزيتون، منها الزيتون الأبيض، ومنها التي تنتج صنفاً حلواً من الزيوت، هذا النوع من الزيتون الأبيض يعتبر نوع نادر من أصناف الزيتون، حيث لا يوجد مثل هذا الصنف إلا في مزارع بجنوب ايطاليا ومزرعة في مدينة ترهونة.

هذه الشجرة التي تُزرع منذ ألاف السنين ويُستفاد من ثمارها ومنتجاتها، نمت جذورها من المتوسط منذ ما يراوح بين 11 ألف و14 ألف سنة وبدأت زراعتها بما يراوح أيضا بين 3800 سنة و3200 سنة قبل الميلاد، وتجاوزت مع مرور الزمن وظيفتها الزراعية والغذائية الأولية لتدخل في مختلف اشكال النشاط البشري من الإضاءة الى البناء والتزويق والزينة الى صناعات التداوي والصناعات الصحية، وبسبب ثراء رمزيتها الثقافية، لها فوائد جمى تعود على الجسم وحياة الانسان، فغير استخدام زيت الزيتون وأخشابه كوقود للحصول على الدفء، فهي كثمار وكزيت تعد مصدر للطاقة، وغذاء غني بالمعادن والاحماض الدهنية الضرورية وغيرها الكثير من الفوائد التي تعود على الجسم من الداخل والخارج، وعادة ما يوصي خبراء التغذية بتناول ما يقارب 7 حبات من الزيتون يوميا لما لها من أسرار وقيمة غذائية عالية لأجل الحفاظ على نظام غذائي صحي ومتوازن، وتمثل شجرة الزيتون مصدر الهام للفنانين والحكايات الشعبية والاساطير، وهي عنصر ضروري للتغذية والصحة وعامل مساعد ضد ظاهرة الاحتباس الحراري والتلوث.

شجرة الزيتون من الأشجار المعمرة وتعتبر ثروة لما لها من فوائد اقتصادية وبيئية. ثمرتها ذات فوائد كثيرة فهي غذاء كامل ويستخرج منها زيت الزيتون ذو الفوائد الصحية والغذائية والتجميلية، ورد ذكره في الكثير من المراجع وبنيت حوله الكثير من الدراسات، ولها قدسية خاصة في جميع الديانات الإبراهيمية.

وهناك الكثير من المعتقدات والأساطير حولها، حيث تقول واحدة منها إن طائر الحمام عاد بغصن الزيتون على متن سفينة نوح ليكون مؤشرا أن الطوفان توقّف وعادت الحياة إلى الأرض.

أنّ القيمة الرمزية لشجرة الزيتون كونها (رمز السلام والحكمة والوئام، وتساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة للشعوب)، وتجمع بين مجتمعات وثقافات مختلفة، وقيمتها الحقيقية في ارتباط المجتمعات بها وبأرضهم وهويتهم، وهي عنصر من عناصر الوحدة والتنوّع في جميع الثقافات منذ ازمنة بعيدة وانها تتجاوز الحدود وتسمح بتبادل مثمر بين الشعوب، كما انها تضطلع بدور أساسي في ترسيخ المجتمعات المحلية في مناطقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى