الاولىالرئيسيةتحقيقاتعربي ودولي

الاقتصاد العالمي في زمن الكورونا.. اسئلة واشكاليات

 

منى الساحلى

يعيش عالمنا اليوم وضعاً غير مألوف جراء الوباء المعروف بكورونا أو كوفيد 19 إذ يعد هذا الوضع استثنائياً من مختلف الجوانب وسيشكل لا محالة منعطفاً كبيراً في تاريخ الإنسانية جمعاء، ليس لخطورته فحسب بل لأثاره الوخيمة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كذلك، فكما هو معروف أثارت مخاطر الأوبئة والأمراض عبر العصور الكثير من الأسئلة والإشكاليات، و هو النقاش نفسه الذي تطرحه الآن جائحة كورونا باعتبارها وباءً عالمياً، أثر بشكل مباشر على المعاملات الدولية البشرية والتجارية والسياسية، حيث فرض تفشي الوباء على الشعوب اتخاذ مجموعة من الإجراءات  والتدابير الاحترازية، العزل والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي ومنع السفر، مما انعكس سلباً على الاقتصاد حيث أصبح يعيش حالة من الركود  الحاد و الانكماش المفاجئ، و بالتالي ظهور أزمة اقتصادية عالمية غير متوقعة.

ويُحذر عديد علماء الأوبئة من أن تخفيف إجراءات الحجر الصحي على نطاق واسع وبشكل سريع قد يؤدي إلى زيادة معدلات الإصابة، وإن الموجة الثانية من الوباء ستمثل ضربة قوية للاقتصاد العالمي وستكون لها عواقب وخيمة على القطاعات الرئيسة خاصة قطاع الخدمات، ولو لم تؤدِ إلى شلّل اقتصادي تام مثلما حدث في المرة السابقة .

 

أما منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية لعام 2020 فكانت توقعاتها الاقتصادية  تتنبأ بسنة من النمو الثابت إن لم يكن بالنمو المتزايد، جاء تفشي الفيروس التاجي، وسبب صدمة كبيرة للاقتصاد العالمي، فقد خفضت المنظمة توقعاتها إلى النصف من 2.9% إلى 1.5%، و ربما تسوء الأمور أكثر إلى درجة تسجيل عجز في الدخل العالمي بقيمة 2000 مليار دولار، مما يعني انهيار الاقتصاد العالمي بصفة كلية، ما يشبه الكساد الكبير الذي أعقب الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 حيث لم تسلم منها أي دولة سواء الدول المتقدمة أو النامية بحكم الترابط العالمي بين اقتصاديات الدول.

ومنذ تفشيه لا يزال فيروس كورونا يعيث في الاقتصاد العالمي دمارا حتى أصابه بالشلل، فقد عرقل الإنتاج والإمداد والنقل الجوي عبر العالم، وأضعف الطلب العالمي، وعزل دولا ووضعها تحت الحجر الصحي، وأخرى تحت حظر التجول، وأصاب قطاعات المال والطيران والنقل والسياحة بخسائر فادحة.الاضطراب الاقتصادي المفاجئ الذي سببه الفيروس التاجي الجديد مدمر بشكل كبير، فعلى سبيل المثال مجال صناعة السفر، هو مؤشر للخسائر التي ضربت القطاعات الاقتصادية. سببت المخاوف من انتقال العدوى على الطائرات، وإغلاق الدول لحدودها، ضربة كبيرة لقطاع الطيران، ورداً على ذلك، قلصت شركات الطيران الرحلات الجوية بشكل حاد لأنها تحاول الحفاظ على الجدوى التشغيلية والمالية، كما قامت بتسريح الموظفين. و تعتبر الإجراءات التي اتخذتها الدول لمكافحة تفشي المرض مثل إغلاق الحدود والعزلة والحجر الصحي، مهمة لإنقاذ الناس، لكنها ستجعل الأمور أسوأ بالنسبة للاقتصاد، وأنها ستغلق قطاعاً اقتصاديا تلو الآخر.

وقد يشهد العالم أسوأ أزمة اقتصادية، وستعتمد هذه الاحتمالات على مدى تفشي الفيروس من حيث الزمان  و المكان، وعمق الأزمة التي سيتسبب فيها. لكن كلما طال أمد الصراع ضد فيروس كورونا أدى ذلك إلى تراجع قيمة الأصول المالية للاستثمارات المنجزة مع تزايد أزمة الديون و قلة الإنتاج مما سيؤدي حتما إلى ظهور حالات الإفلاس الاقتصادي و انهيار مفاجئ لقيم و أصول العديد من البورصات العالمية بسبب صعوبة التنبؤ بحركة الأسواق. وستكون لذلك تبعات اجتماعية و اقتصادية كبيرة وضغوط هائلة على الحكومات لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي من خلال التدابير و الإجراءات الاجتماعية المختلفة و برامج الدعم  لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ودعم النمو لتفادي الدخول في انكماش اقتصادي حاد. وتعكس هذه التدخلات قلق الحكومات من زعزعة فيروس كورونا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في بلدانها. ومما لا شك فيه أن برامج الإنقاذ والدعم للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية المتضررة ستخفف معاناة الكثيرين حول العالم، ولكن أثر التحفيز المالي يبقى محدودا في إنعاش الطلب في اقتصاد مشلول وعالم يقبع تحت حجر صحي حتى ينحصر الوباء تدريجيا، ولاشك أن عالم ما بعد كورونا سيختلف عما قبله.

وسيشكل تفشي فيروس كورونا مع انهيار أسعار النفط ، بعد أن ارتفعت أسعار النفط إلى حوالي 70 دولار للبرميل الواحد هاهي و بدون سابق إنذار تنزل إلى حوالي 33 دولار ،أثرا سلبيا مزدوجا على دول الشرق الأوسط، وسيشكلان تحديا كبيرا للدول التي تعاني من هشاشة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.ولن يكون من السهل إعادة تشغيل اقتصاد عالمي حديث مترابط بعد انتهاء الأزمة،

 

وكما أدى الكساد الكبير الذي أعقب الأزمة المالية العالمية لعام 2008 إلى ظهور الوضع الجديد للاقتصاد المتمثل في استمرار النمو المتدهور، والاستقرار المالي المصطنع، نتوقع تغيير أزمة كورونا التضاريس الاقتصادية العالمية. فسوف تسرع عملية إزالة العولمة وإلغاء التقارب وإعادة تعريف الإنتاج والاستهلاك في جميع أنحاء العالم.

 

يذكر أن تفشي الفيروس في 170 دولة حول العالم وإصابة نحو 860 ألف و954 شخص، و ارتفاع الوفيات إلى 42 ألفا 368 حول العالم أدى إلى انهيار البورصات العالمية، وتسجيل خسائر بمليارات الدولارات في مختلف أنحاء العالم. فانحرفت التجارة العالمية مع الازمة الصحية في الطين عن مسارها؛ حيث تأثر 80 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ، وهي موجة صدمة للتجارة العالمية إذ تُمثّل الصين ربع الإنتاج العالمي، كما تستهلك 27 بالمئة من إنتاج الكمبيوتر على مستوى العالم، و60 بالمئة من إنتاج الباراسيتامول، ولكنها أيضاً مُقدمة رئيسية للطلب في آسيا، بالإضافة إلى كونها سوقاً عالمياً كبيراً لقطاعات كثيرة؛ مثل القطاعات الكمالية (35 بالمئة من المبيعات)، والسيارات (40 بالمئة من مبيعات فولكس فاجن)، والإلكترونيات (20 بالمئة من مبيعات آبل)

وتُعتبر أمريكا التي تشكل 25 بالمئة من الاقتصاد العالمي بناتج محلي إجمالي بلغ عام 2018 (20.4) ترليون دولار أمريكي الأكثر ضرراً، قد أشارت دراسة أن التكلفة المتوقعة للمال المهدر في أمريكا يمكن أن تصل إلى 1.7 تريليون دولار عام 2020 بسبب تفشي فيروس كورونا، والمال المُهدر هنا يعود إلى الإجراءات الاحترازية الناجمة عن تفشي فايروس كورونا مثل تعليق الدروس، وإلغاء تنظيم الكثير من الفعاليات، والتباعد الاجتماعي، وتأثير ذلك بشكل كبير على مجموعة كاملة من الصناعات في الولايات المتحدة

وفي تقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية، أكد الكاتب ديزموند لاشمان أن شبح موجة ثانية من فيروس كورونا يُخيم على الولايات المتحدة واقتصاديات العالم، لكن المثير للقلق هو خطاب إدارة ترامب المتفائل الذي يرى أن الاقتصاد على أعتاب حالة من الانتعاش بعد أن مر بفترة ركود هي الأسوأ منذ عشرات السنين

وعبّر الكاتب عن أمله في ألا تصر إدارة ترامب على نظرتها المتفائلة بشأن انتعاش الاقتصاد الفترة القادمة، مشددا على ضرورة وضع خطط طوارئ تمكنها من الاستجابة السريعة والفعالة في حال تعثر الاقتصاد مجددا جراء موجة ثانية من فيروس كورونا المستجد في وقت لاحق من هذا العام

أما صندوق النقد الدولي يتوقع انكماش دخل الفرد في أكثر من 170 دولة -مع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي- بنسبة 3% مع استمرار الركود العالمي خلال العام 2020. ومن المتوقع أن يأتي الانتعاش الاقتصادي في العام 2021 بشكل جزئي فقط، لكن قد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل عودة الطلب إلى مستويات ما قبل فيروس كورونا المستجد. وما زلنا غير متيقنين من قدرتنا على خوض مواجهة ثانية أو موجات لاحقة من الفيروس يمكنها أن تسبب ركودًا طويلًا أو حتى كسادًا. وسيستمر هذا الحال حتى اكتشاف اللقاح، الذي تشير التقديرات إلى توفره في ربيع العام 2021

ومن أجل تدارك المخاوف التي يعيشها العالم من هذا الفيروس التاجي ، فان يجب على الحكومات أن تنفق في هذه المرحلة للحيلولة دون وقوع انهيار كارثي  قد يُحدث أضراراً أكبر من تلك المتوقعة أن تحدث خلال هذا العام

والعمل على استرجاع ثقة المستهلك والمستثمر فقد أكدت دراسة أن مزيجاً من انخفاض أسعار وضعف الطلب الكلي وتزايد أزمة الديون وتفاقم توزيع الدخل كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى دوامة من التراجع تجعل من الوضع أكثر سوءاً في جميع أنحاء العالم.

أما الدول الأوروبية تواجه  كغيرها من دول العالم ازمات ومشكلات اقتصادية كبيرة بسبب تفشي وباء فيروس كورونا، الذي دفع دول منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي وكما نقلت بعض المصادر، إلى فرض قيود صارمة على حركة التنقل بين الحدود، واغلاق جزئي في مفاصل اقتصاداتها، لمنع تفشي الجائحة، وقالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي إن من المرجح أن ينكمش اقتصاد منطقة اليورو بين ثمانية بالمئة و12 بالمئة هذا العام إذ يواجه صعوبات لتجاوز أثر جائحة فيروس كورونا.

وكان البنك المركزي الأوروبي قال في وقت سابق إن الاقتصاد قد ينكمش بنسبة تتراوح بين خمسة و12 بالمئة، لكن لاجارد التي كانت تتحدث في حوار مع الشباب، قالت إن التصور ”المعتدل“ عفا عليه الزمن بالفعل وإن النتيجة الفعلية ستكون بين التصورين ”المتوسط“ و“الحاد“. هذه الازمة الكبيرة دفعت وبحسب بعض المراقبين، دول الاتحاد الاوروبي الى رفع او تخفيف اجراءات العزل الصارمة، وهو ما اثار قلق ومخاوف العديد من الجهات، التي تخشى من تفشي الفيروس مجدداً خصوصا مع عدم وجود علاجات او ادوية خاصة بهذا المرض.

كما كبير الخبراء الاقتصاديين بالبنك المركزي الأوروبي أن اقتصاد منطقة اليورو الذي تضرر جراء تفشي فيروس كورونا لن يعود إلى مستويات ما قبل الجائحة حتى العام المقبل على أبكر تقدير، مضيفاً أن البنك مستعد لإجراء تعديلات على أدواته عند الحاجة مستبعداً في جميع الأحوال أن يعود النشاط الاقتصادي لمستوى ما قبل الأزمة قبل 2021 إذ لم يكن بعد ذلك على حد قوله. من جانب اخر حذر بعض الخبراء من استمرار الخلافات والازمات بين دول الاتحاد الاوروبي، الامر الذي قد يؤدي إلى اشتعال التوترات السياسية التي يمكن أن تفكك دول الاتحاد، وهو ما دفع بعض الحكومات الى تقديم خطط ومشاريع جديدة لدعم الاقتصاد والابتعاد عن الخلافات القديمة التي تمخضت خلال أزمة عام 2009 المالية.وفي هذا الشأن قال الملياردير جورج سوروس إن الاتحاد الأوروبي ربما يتفكك في أعقاب جائحة فيروس كورونا ما لم يصدر التكتل سندات دائمة لمساعدة الأعضاء الضعفاء مثل إيطاليا.

والحل لن يكون بالاستجابة الصحيحة من الحكومات والشركات والأفراد يمكن أن تحد من الانكماش الاقتصادي القادم وتقصير مدته والمساهمة في انتعاش أكثر حدة وأقوى وأكثر استدامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى