الرئيسية

الشيء الذي لم يحدث

عائشة ابراهيم

قـصــــة‭ ‬

تتمدد‭ ‬شمس‭ ‬الخريف‭ ‬فوق‭ ‬حي‭ (‬الشرقية‭)‬،‭ ‬مثل‭ ‬عجوز‭ ‬متصابية‭ ‬تلعق‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬حياة‭: ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬المارة‭ ‬المتجهمة‭ ‬النزقة،‭ ‬في‭ ‬الشجيرات‭ ‬الشعثاء‭ ‬المحاذية‭ ‬للطريق،‭ ‬في‭ ‬العشب‭ ‬الباهت‭ ‬الذي‭ ‬خلفته‭ ‬غدران‭ ‬متهتكة،‭ ‬في‭ ‬حفر‭ ‬الطين‭ ‬التي‭ ‬نست‭ ‬أن‭ ‬تطمرها‭ ‬البلدية،‭ ‬في‭ ‬السيارات‭ ‬المتهالكة‭ ‬وهي‭ ‬تطش‭ ‬مياهاً‭ ‬قذرة‭ ‬على‭ ‬الرصيف،‭ ‬في‭ ‬الأعلام‭ ‬المهلهلة‭ ‬المتساقطة‭ ‬على‭ ‬أكوام‭ ‬القمامة،‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬الأمهات‭ ‬الفقيرات‭ ‬وهن‭ ‬يجادلن‭ ‬بائعي‭ ‬الخضار،‭ ‬في‭ ‬الوجوه‭ ‬المرهقة‭ ‬الغاضبة‭ ‬التي‭ ‬تطل‭ ‬من‭ ‬السيارات،‭ ‬تعلن‭ ‬تبرمها‭ ‬وانزعاجها‭ ‬من‭ ‬اختناق‭ ‬الطريق‭. ‬

‮ ‬هنالك،‭ ‬عند‭ ‬تقاطع‭ ‬الشوارع‭ ‬الأربعة،‭ ‬وحيث‭ ‬انقطعت‭ ‬الكهرباء‭ ‬عن‭ ‬الإشارة‭ ‬الضوئية‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬الظهيرة،‭ ‬وحيث‭ ‬زحفت‭ ‬السيارات‭ ‬كوحوش‭ ‬جائعة‭ ‬باتجاه‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬يقف‭ ‬شرطي‭ ‬المرور‭ ‬الشاب‭ ‬بحلته‭ ‬البيضاء‭ ‬الناصعة،‭ ‬حائراً‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬بؤرة‭ ‬الازدحام،‭ ‬يصارع‭ ‬المد‭ ‬المنهمر‭ ‬من‭ ‬الهياكل‭ ‬والأبواق‭ ‬والزعيق‭ ‬والشتائم‭ ‬المعلنة‭ ‬والمستترة،‭ ‬يطلق‭ ‬نداءه‭ ‬عبر‭ ‬أنين‭ ‬صفـّارة‭ ‬متوسلة،‭ ‬يزيح‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬قبعته‭ ‬الأنيقة،‭ ‬محاولاً‭ ‬اكتشاف‭ ‬فجوة‭ ‬لتسليك‭ ‬الدرب‭ ‬المسدود‭. ‬

تتداخل‭ ‬الصفوف،‭ ‬تنغلق‭ ‬المسارات،‭ ‬تتوقف‭ ‬الحركة‭ ‬تماماً،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يوحي‭ ‬بانفراجة‭ ‬ممكنة،‭ ‬تتعالى‭ ‬الأصوات،‭ ‬يطرقع‭ ‬صوت‭ ‬تحطم‭ ‬مرآة‭ ‬جانبية‭ ‬لسيارة‭ ‬يقودها‭ ‬سائق‭ ‬نزق،‭ ‬“أوووووه‭!!‬”،‭ ‬يصيح‭ ‬الجميع،‭ ‬ملتفتين‭ ‬نحو‭ ‬السائق‭. ‬

‮ ‬فجأة،‭ ‬يسود‭ ‬الصمت،‭ ‬حين‭ ‬تظهر‭ ‬فتاة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬السيارات،‭ ‬تدفع‭ ‬جسدها‭ ‬النحيل‭ ‬بحذر‭ ‬بين‭ ‬الهياكل‭ ‬المعدنية‭ ‬الملوثة‭ ‬بالوحل،‭ ‬تجمع‭ ‬بإحدى‭ ‬يديها‭ ‬طرفي‭ ‬كنزتها‭ ‬الزرقاء‭ ‬فوق‭ ‬صدرها،‭ ‬وتلوح‭ ‬باليد‭ ‬الأخرى‭ ‬باتجاه‭ ‬الشرطي،‭ ‬تهبط‭ ‬ضحكتها‭ ‬اليانعة‭ ‬برداً‭ ‬وسلاماً‭ ‬على‭ ‬الوجوه‭ ‬المتجهمة،‭ ‬فيمدون‭ ‬أبصارهم‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬تسير‭.. ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬بؤرة‭ ‬الزحام‭.. ‬تتسارع‭ ‬رفرفة‭ ‬وشاحها‭ ‬الوردي‭ ‬وخصلات‭ ‬تتطاير‭ ‬بغنج‭ ‬من‭ ‬مقدمة‭ ‬رأسها،‭ ‬تقفز‭ ‬كعصفورة‭ ‬باتجاه‭ ‬الشرطي‭ ‬الغارق‭ ‬في‭ ‬دهشته‭.. ‬يرخي‭ ‬الصفارة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شفتيه‭ ‬فتفر‭ ‬متأرجحة‭ ‬في‭ ‬قلادتها‭ ‬على‭ ‬صدره،‭ ‬ينزع‭ ‬قبعته‭ ‬في‭ ‬الثواني‭ ‬القليلة‭ ‬المتبقية‭ ‬من‭ ‬وصول‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬ألقت‭ ‬بنفسها‭ ‬بين‭ ‬ذراعيه‭ ‬المشرعتين‭ ‬لها،‭ ‬وغمرته‭ ‬في‭ ‬عناق‭ ‬

حار‭ ‬طويل‭.. ‬

بهت‭ ‬كلُّ‭ ‬من‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬وأصيبت‭ ‬السيارات‭ ‬بكساح‭ ‬مفاجئ،‭ ‬سكت‭ ‬زعيق‭ ‬الأبواق‭. ‬وتوقف‭ ‬بائعو‭ ‬الخضار‭ ‬في‭ ‬الأكواخ‭ ‬القريبة‭ ‬عن‭ ‬الصياح،‭ ‬ودفعت‭ ‬الأمهات‭ ‬الفقيرات‭ ‬ثمن‭ ‬الطماطم‭ ‬بدون‭ ‬مماكسة‭. ‬لعق‭ ‬الشبان‭ ‬شفاههم،‭ ‬ونزّ‭ ‬العرق‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬الكهول،‭ ‬ومسحت‭ ‬النساء‭ ‬بأطراف‭ ‬أصابعهن‭ ‬دموعاً‭ ‬سخية،‭ ‬وألقين‭ ‬نظرة‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ ‬على‭ ‬وجوههن‭ ‬في‭ ‬مرايا‭ ‬سياراتهن‭.. ‬ظلت‭ ‬الفتاة‭ ‬متشبثة‭ ‬بعنق‭ ‬الشرطي،‭ ‬وهو‭ ‬يضم‭ ‬رأسها‭ ‬بيدٍ،‭ ‬ويطوق‭ ‬خصرها‭ ‬باليد‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬مازالت‭ ‬تمسك‭ ‬بقبعته‭ ‬البيضاء‭ ‬الأنيقة‭. ‬وفي‭ ‬ذروة‭ ‬لحظات‭ ‬الدهشة،‭ ‬وحيث‭ ‬نسى‭ ‬الجميع‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم،‭ ‬وأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬جائعين،‭ ‬ومرهقين‭ ‬ومتوحشين،‭ ‬ترجل‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشبان،‭ ‬بوجوه‭ ‬مبتسمة،‭ ‬وآذان‭ ‬حمراء‭ ‬تطفح‭ ‬بالخجل،‭ ‬استداروا‭ ‬باتجاه‭ ‬السيارات‭ ‬المتناطحة،‭ ‬وطالبوا‭ ‬السائقين‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬قليلاً‭ ‬لتمرير‭ ‬السيارات‭ ‬العالقة،‭ ‬استجاب‭ ‬الجميع‭ ‬بهدوءٍ‭ ‬ورضا،‭ ‬وكان‭ ‬الشرطي‭ ‬الشاب‭ ‬يهمس‭ ‬شيئاً‭ ‬حميماً‭ ‬في‭ ‬أذن‭ ‬الفتاة‭ ‬وهو‭ ‬يضمها‭ ‬في‭ ‬غمرة‭ ‬عناق‭ ‬أخيرة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تودعه‭ ‬بابتسامة‭ ‬وتعود‭ ‬أدراجها‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬منه‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬أطلق‭ ‬السائقون‭ ‬أبواق‭ ‬سياراتهم‭ ‬في‭ ‬نغم‭ ‬إيقاعيّ‭ ‬موحد‭ ‬إعلاناً‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬فرح‭ ‬عارم‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى