إجتماعي

المدرسة التي نفتقدها

فائزة العجيلي

مجتمع

   تعد الأم الركيزة الأساس في بناء الأسرة، فعليها تقوم مسؤوليات جسام، ومهام شاقة حتى يتم بناء الأسرة بناءً صحيحًا، ويستطيع الأبناء الولوج إلى عالم الحياة بكل ثقة وجدارة، ويكونون أفرادًا صالحين لتستمر عملية البناء جيلًا بعد جيل..

وحتى إن غاب الأب عن الأسرة، موتًا أو طلاقًا، فإن الأم بإمكانها المحافظة على كيان الأسرة من التشتت والضياع، وبإمكانها القيام بدور الوالدين في ذات الحين، وهو الأمر الذي يشبه المستحيل في حال غياب الأم..

وعبر العصور والأزمنة، وفي كتاب الله، وفي كل الشرائع، وحتى في القوانين الوضعية، والنواميس والأعراف، فإن الأم تحظى بمكانة مرموقة، وتبجيل وتقدير، يصل حد القداسة أحيانًا..

فديننا الإسلامي جعل الجنة تحت أقدام الأمهات، والله سبحانه وتعالى جعل رضاه عن العبد برضى والديه عنه، ورسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، أوصى بالأم ثلاث مرات متتالية، بينما أوصى بالأب مرة واحدة، ( …. أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك).. وفي هذا تقدير وإجلال لدور الأم ومكانتها في بناء المجتمع..

فالأم هي التي تقوم بمهام الحمل، والرضاعة، والرعاية والاهتمام اللتان يحتاجهما الطفل في مراحل نشأته الأول والتي يكون فيها غير قادر على شيء، وتقوم الأم بذلك دون كلّ ولا ملّ، بل بكل الحب والحنان.

ودور الأم لا يتوقف عن هذا الحد، بل يستمر مع الإنسان طيلة حياته، رعاية واهتمامًا وتنشئة وتربية، فمنها يأخذ الطفل منهجه في الحياة، حيث تزرع فيه بذور التربية السليمة المستمدة من الدين والعرف والتقاليد، ونهج المجتمع الذي يعيش فيه، عدا عن بذور المحبة والود والتسامح، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة وعقل، على تهيئة الأبناء للدخول في معترك الحياة، والمساهمة في بناء المجتمع.

ورغم أننا نشأنا وترعرعنا في كنف أمهاتنا اللواتي لم يبخلن علينا بشيء، من الرعاية والاهتمام، والتربية الصالحة، في وقت لم تكن فيه أمهاتنا قد تلقين تعليمًا، ولا كانت الحياة لهن مرفهة ولا رغدًا، بل كانت أمهاتنا يستمدن أصول التربية الصحيحة ممن سبقهم من أمهاتهن وجداتهن، وكن مسؤولات عن أمور البيت بأكملها، وبعضهن محملة بأعباء العمل خارج البيت، كالاهتمام بالزراعة وتربية المواشي، ومع هذا نجحن في تنشئتنا وتربيتنا على الدين والأخلاق والعلم..

ومع تغير الأزمنة وتطور المجتمعات، وما حدث ويحدث من تقدم علمي متسارع الخطى، والانفجار الكبير في التقنية، حتى صارت حياة الإنسان مرتبطة بها ارتباطًا لا يمكن الافتكاك منه، فإن دور الأم المدرسة أخذ في التلاشي شيئاً فشيئًا، حتى صارت تخرج علينا نماذج يحسب المرء أنها لم تعش في كنف أسرة طبيعية، ولا علاقة لها بالتربية السليمة..

فما حدث من تقدم تقني، خاصة في انتشار شبكة الانترنت، وتغلغل شبكات التواصل الاجتماعي في كل ركن زاوية، جعل من الأم تتخلى عن مسؤولياتها الجسام المنوطة بها تشريفًا وتقديسًا، لتتجه إلى التقوقع على ذاتها، تاركة أطفالها في مهب الريح تتلاعب بهم تيارات دخيلة عن دينهم ومجتمعهم، وتبتعد بهم عن التنشئة الصحيح، وهنا تقع المسؤولية على الأم، التي هي المدرسة الأولى والدائمة في التربية والرعاية والاهتمام، ولكنها للأسف تخلت عن كل ذلك لأجل مجاراة العصر، والالتفات إلى نفسها، وتغليب الأنا بداخلها، حتى صارت غير مبالية بكيفية تربية أبنائها ورعايتهم، فصار اهتمامها منصبًا على الاهتمام بجسدها ورشاقتها، وملبسها ومأكلها، والترويح عن نفسها، والاستمتاع بالحياة، دون التفكير في الشرخ الكبير الذي سببته في بناء المجتمع، بإهمالها لمسؤولية تربية أبنائها التربية السليمة، وبالتالي عدم مساهمتهم مستقبلًا في الرقي بمجتمعهم، بل على العكس من ذلك، سيكونون وبالًا وعالة على المجتمع.

وهذا ليس معناه أن تهمل الأم نفسها كإنسانة أولًا لها خصوصيتها، واهتماماتها، وكانثى وزوجة ثانيًا لها متطلباتها واحتياجاتها، ولكن عليها المواءمة بين ذلك، فلا تهمل نفسها، ولا تقصر في تربية وتنشئة أبنائها، وهذا ليس بالشيء المستحيل، ومحيطنا مليء بالأمهات الناجحات والمميزات اللواتي عرفن كيف يسرن في هذا الحياة دون إهمال ولا تقصير، وكم منهن تتحمل المسؤولية كاملة ولوحدها بفقدان الزوج موتًا أو طلاقًا، فلم تفقد اتزانها، ولم يفقد كيان أسرتها تماسكه وترابطه وتميزه؛ إن الأمر بحاجة إلى استفاقة عاجلة، وإلى ثورة تصحيحية تنويرية، أساسها الوعي الجمعي، لتعود الأم مدرسة تنير دروب المجتمع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى