ثقافة

تلاشي

عائشة ابراهيم

قصة

«ماذا لو استطعتَ أن تطلق الموتَ على شخص ما بكلمة؟! ماذا لو كان بيدك! أن تقول له مُتْ فيموت؟!».

كانت هذه العبارة مدونة بخط اليد في حاشية كتاب رخيص من تلك الكتب المستعملة المطروحة على الرصيف أمام المقهى، اشترته بخمسة دنانير، بعد أن أصرّ البائع أنه كتاب مبخوت سقط من فم طائر مهاجر، ضحكت مما عدّته دعابة، وقررت أن تتماهى مع فكرة الحظ  القادم من السماء، ولما اتخذت مكانها في زاوية المقهى، وتصفحت أوراقه الصفراء، وقعت عينها على تلك العبارة المرصودة، أصابتها قشعريرة مفاجئة وأغلقت الكتاب..   

)ماذا لو؟(  قرصت الفكرة رأسها بلسعة مدوخة، بتوق غامض ، بانفعال أهوج، ومسحت بعينيها وجوه النساء الجالسات على الكنبات القريبة، كن نساء مدللات جميلات، يلعقن النوتيلا عن فطائر البانكيك ويسترقن النظر إلى شبان ناضحين بالوسامة والثراء، شعرت بمرارة ما، بغيرة خفية، بأسىً مكبوت، مسحت كل الوجوه بعينيها حتى أولئك اللاتي جلسن مع أزواجهن وكن تائهات، والأزواج يقلبون هواتفهم بضجر، ثم ينظرون إلى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار..  جالت بذاكرتها في وجوه أخرى بعيدة وقريبة، بحثت عن كل أولئك الذين آذوها، عن الذين تركوا حزناً غائراً في أعماقها،  أشقاؤها الذين هاجروا وتركوها وحيدة،  شقيقتها التي أقفلت الباب في وجهها لأن أولادها يذاكرون للامتحانات، جارتها النمّامة وسائق التاكسي الوقح وبائع الخضار الغشاش، حاصرتها صورة طليقها، تذكرت كيف كانت تستجديه البقاء معه، يؤلمها أن تكون مطلقة، أن يشير إليها الأخرون بخبث وفضول. من تراه يستحق الموت إذا كان لها أن تقول له مت فيموت؟. أغمضت عينيها وتنفست بعمق، محاولة أن تستوعب ضخامة هذه الفكرة، هناك أحد ما في هذا العالم لابد أن يموت،  لكنها لا تعرف حتى الآن من سيكون، هزت رأسها في حيرة ثم ارتشفت الرغوة الكثيفة فوق فنجان النسكافيه..

كان الرجل الأربعيني الذي يدس في أيدي النساء قصاصات صغيرة بها رقم هاتفه، يتلقى صفعة من امرأة لا تحتمل الملاطفة العشوائية، وحين شعر بالإهانة، أو ربما بالإحراج، شتمها بكلمة نابية، وجاء صاحب المقهى يدفعه إلى الخروج، لكنه تشبث بكرسيه، وتعمد أن يرفع صوته متهماً المرأة بمحاولة الإغواء، لم تشعر حتى ذلك الوقت بالرغبة في قتله، إذ أن الأمنية بدتْ غالية جداً، وأثمن من أن تنفقها على شخص عاطل يستجدي رنة هاتف من امرأة عابرة، لكن الفكرة بدتْ مغرية، أن تقتل شخصاً مؤذياً من دون سلاح، فقط أن تتمنى له الموتَ، فيموت!!.

عاودتها الرغبة أن تجرب مفعول الأمنية، التعويذة السحرية التي دسها أحدهم في هذا الكتاب المهمل لتكون سلاحها الصامت الفتاك، أن تختار بدقة غريمها، ثم تغمض عينيها وتتمنى له الموت، تتمنى من أعماقها وبكل جوارحها وحواسها، تستحضر الأذى الذي نالها منه، فتكبر الأمنية مثل بالون يتمدد، ويتمدد، ثم فجأة ينفجر محدثاً  فرقعة عالية، وحين يلتفت الناس يجدون ذلك الشخص قد سقط ميتاً، هكذا بلا مقدمات ولا آثار.. راقتها الفكرة، واستجمعت كل الأشخاص في ذاكرتها، أعادت ترتيبهم بحسب مستويات الألم الذي نالها منهم، كل الأشخاص الذين عبروا في حياتها، الذين خذلوها، الذين سخروا منها، الذين قابلوها بالمهانة والاحتقار.. تتراكم  صور الأشخاص.. تقترب من سطح الذاكرة.. تحاول أن تفقأ البالون الموبوء بالموت، تستجمع كل طاقة الكراهية، والألم والغيرة والانتقام، لكن صور الأشخاص تتلاشى، بعيدًا.. بعيدًا.. شيئًا ما يجعلها تذوب وتختفي مثل فقاعات صغيرة تتبعثر في الفراغ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى