ثقافة

فلسفة السخرية والعين الثاقبة للدكتورة فريدة المصري

نقـــد

 لكل شيء موسم و وقت، و الأدب الساخر يقوى و يزدهر في مواسم بيع الوهم و تردي الأوضاع، لذلك فإن السخرية من هذا الجانب تُعد وسيلة دفاعية يستخدمها الكاتب لتعرية بعض الظواهر الموجودة في المجتمع، أو بعض السياسات التي تتبعها الحكومات، لتقترب السخرية من الرمزية، خاصة في اختيارها لبعض الشخصيات سواء الإنسانية أو الحيوانية، و تتميز الشخصية في الأدب الساخر بالثَقَب في النظر و الدقة في الملاحظة، 

لذلك يُعنى الكتّاب الساخرون عناية خاصة بشخصياتهم، و هم بهذا يحاولون التقرب من القارئ بواسطة بعض المواصفات التي تتسم بها تلك الشخصيات، لتُشكِّل الشخصية محورا رئيسا في إرسال مسجات محورها قد يكون سياسيا أو اجتماعيا، و من المعروف تاريخيا شخصية جحافي الأدب العربي و التي يقابلها شخصية نصر الدين خوجة في الأدب التركي، و شخصية ملا نصر الدين في إيران و شخصية غابروفو في بلغاريا، و أرتين في أرميني، و آرو المغفل في يوغسلافيا، و جوخا في إيطاليا و مالطا، و قد تطورت هذه الشخصية من عصر إلى آخر و انتقلت من مكان إلى مكان لتصبح شخصية عالمية بامتياز، لذا فإن الأدب الساخر يُعد وثيقة تاريخية مميزة توثق حياة الأمم و الشعوب . 

الشخصية التهكمية في الأدب الليبي 

     من أهم ما يميز الكتابة الساخرة عثور الكاتب على الشخصية المناسبة التي يجعل منها جسرا ما بين أفكاره و المتلقي، و تعد الدقة في اختيار الشخصية هي القاطرة المتينة التي تجعل من المتلقي متشبثا بالنص من بدايته إلى نهايته دون الشعور بالملل، و من أهم ما يحسب الكاتب حسابه في اختيار هذا النوع من الشخصيات هو قربها من جمهور المتلقين لأدبه و قرائه، و ذلك لشد انتباههم و تحريك تفاعلهم مع النص و الرسالة التي يتضمنها، بل و أحيانا يعتمد الكاتب اسما يطلقه على شخصية تتكرر في كل نصوصه، و ليس أدل على ذلك مما كان يكتبه الصادق النيهوم من مقالات أدبية منتقدا فيها بعض الظواهر الموجودة في المجتمع الليبي، كان قد نشرها في صحيفة الحقيقة، تلك المقالات التي اعتمد فيها شخصية الحاج الزورق التي استخدمها بنفس الاسم و التوصيف في جل مقالاته، فالحاج كلمة متداولة في الثقافة العربية و من ثم في المجتمع الليبي الذي يمثل جزءا من الثقافة العربية، و هي وصف يطلق على كبار السن من الرجال بغض النظر عن تأديته فريضة الحج من عدمها، أما الزروق فهو   اسم متداول ، و لا يعد غريبا عن مجتمع القرّاء الليبيين، فالحاج الزروق صار صديقا مقربا لقراء النيهوم الذين كانوا ينتظرونه بشغف و شوق لما يحمله لهم من رسائل ضمنية ساهمت بشكل أو آخر في توثيق اليومي في حياة الليبيين، بل تشريحه، و وضع السبابة على مواضع الخلل، في قالب تهكمي ساخر من تلك الظواهر .

     أما إبراهيم حميدان فنستطيع مقارنته بالكاتب التركي عزيز نسين حيث يصور بقلمه الواقع المعاش من خلال المفارقات التي تعد من أهم أركان الأدب الساخر، و هو أيضا يسرد قصصه بلغة ساخرة فتقترب من اليومي و المتكرر بشكل اعتيادي، لتأتي عدسة حميدان فترصده، و تدونه في صورة مقالة أدبية، أو قصة قصيرة ذات مضمون حيوي، و قد استفاد حميدان من عالم التقنية الافتراضي لينشر على حائط صفحته بعضا من سروده التي يتتبع فيها الحياة السياسية، و الاجتماعية، و الثقافية، و يسقط مفارقاته على تلك الصور التي يقوم برصدها بين الحين و الآخر، و كثيرا ما يستخدم الكاتب أناه شخصية رئيسية تنقل حدثا مرّ به و يمرّ بأي منا في حياته و شؤونه اليومية، من مثل معاملة إدارية، أو مصرفية، أو موقف يحدث في الشارع أو مكان عام، ففي قصته (أنا دائما صح) ينقل لنا الكاتب إحساس الإنسان الذي يتوقع نفسه دائما يفكر أنه دائما على صواب، لكنه في النهاية يكتشف نفسه على حقيقتها و ذلك بأسلوبه الساخر المعتاد.

تطالعنا أيضا بين الفينة و الأخرى قصص الكاتب رضوان بو شويشة انتقي منها قصته التي نشرها عبر حسابه على الفيس بوك و هي بعنوان : ( مصرف العين العورة) يصور فيها حياة المواطن الذي أنهكه الانتظار في سبيل الحصول على مرتبه أمام شباك الخزينة بالمصرف، لكنه في النهاية يُفاجأ بضياع الشيك بين شبابيك المصرف، فالقصة تضع كل أسلوبها الساخر في عتبة النص الذي يفاجأنا به الكاتب، و كأنه اعتصر مضمون قصته في العنوان حاملا مع هذا العنوان التهكمي كل ما يعتريه من مشاعر الغضب التي تتحول إلى سخرية مكثفة مكونة فقط من ثلاث كلمات اختزلت مضمون النص فيها عَنْوَن بها الكاتب قصته .

     التناص الساخر

استطاع الكاتب جمعة بو كليب وضع لمسات تهكمية ساخرة يتقمصها بعض من شخصياته لتنقل لنا واقعا عاشه الكاتب و مثّل جزءا من سير ذاتيته التي عاشها في لندن و هو مسكون بتفاصيل الواقع الليبي، مصورا حينا، و مقارنا حينا آخر، فالحياة في لندن جعلته يضع نظارة كاشفة ليقترب أكثر مما كان يعيشه في أرض الوطن، و للمواقف التي يمر بها في عاصمة الضباب، تلكم التفاصيل اليومية الصغيرة هي الشاهد على الاختلافات الجوهرية بين ثقافتين . و قد جعل من التناص أداة فعّالة للسخرية من عديد المواقف، خاصة عندما تتناص كتابته مع الأغاني و الأمثال الشعبية حيث يلملم الكاتب بها شتات نفسه المبعثرة بين موطنه الأصلي و موطنه الجديد ليصنع من السخرية خطا دفاعيا ضد ما يعتريه من شعور بالغربة حينا، و حنين إلى وطن لم يستطع العيش فيه كما يرغب في ظل الظلم و القمع، كما استخدم التناص الساخرإن صح التعبيرلانتقاد بعض الظواهر، و بعض السلوكيات المنافية للتحضر و المدنية، من هذه التناصات ما جاء عنوانا لقصة، مثل : ( الحاج منصور في لندن يا سمي صبي  المي)،

 و منها ما جاء في المتن من مثل : ( كيف ايجيك الوقت تعالى له) ، و غيرها الكثير مما اكتضت به نصوصه .

نخلص إلى أن الأدب الساخر هو من قبيل النقد شديد اللهجة بصورة مضحكة تقول لنا بأعلى صوت ( شر البلية ما يُضحك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى