يمكن أنَّ نعرضَ في عجالة مفهوم ممارسة النقد الفكري، أو الأدبي والفني من جانبه الثقافي، وكيف ارتبط في عقولنا دون أن ندري بمدلول كلمة )نقد( في الثقافة السائدة، وشاع بيننا بأن النقد مجرد إكتشاف للأخطاء والعيوب، وغاب عن عقولنا بأن من واجبات النقد هو تقوية إثراء الموضوع.
ظاهرة النقد في السلوك البشري ربما هي جزءٌ من سيكولوجية الإنسان منذ بدايات تكوّْن المجتمعات الأولى وحتى قبل أن يتعلم القراءة والكتابة وربما كان النَّاس يمارسون النقد عبر المشافهة في تصحيح أفكار، أو معتقدات بعضهم بعض، وكان من الطبيعي أن يوجه النقد بصفة شخصية من ذات المتلقي لذات الشخص المنقود وليس للموضوع، ومن هنا ظهرت ثنائية )الذاتية(، و)الموضوعية( فيما بعد.
هكذا بدأتْ عملية النقد مثل معظم البدايات في كل المجالات؛ فهي عادة ما تكون هكذا عفوية ساذجة، ثم يتم تصحيحها وتنقيحها فيما بعد عبر عملية النقد.
شاع النقد بالمعنى التقليدي عبر لغة الوعظ، حيث قام الناقد بدور الواعظ، وسيطرة النزعة الأخلاقية في الدينية وأصبح مقياس كمال النَّص القوة البلاغية من حيث الأسلوب والقوة الأخلاقية في التوجيه والترشيد.
النقد بالمعنى العام هو أساسٌ في كل عمليات الفكر، فلا فكر دون أن تعقبه حالة من تقييم النتائج وتقويم المسارت، النقد يعد أهم خطوات المنهجة العلمية التي وضعها فيلسوف الشك المنهجي في كتابه)مقالة في المنهج(.
بعد إنجاز تقدم في تداول الأفكار عبر المشافهة ثم الكتابة وظهرتْ مصطلحات، وتكوّْنت آليات تهتم ببناء الفكرة، وكيف نستنتج الفكرة من الفكرة، وكيف نستخلص الأحكام والنتائج من المقدمات.
مصطلح النقد مثل أي مولود جديد مرّْ بعدة مراحل من التطور ويتخذ أبعادًا جديدة ويتجه لأكثر شمولية في الكم، وأكثر موضوعية في الكيف، وصار لا يبرز العيوب الأخطأ فقط بل صار يبرز النقاط القوة والمحاسن على حد سواء في النَّص النقود.
النقد بالمعني الفلسفي التقليدي يشير لنزعة توفيقية نادى بها الفيلسوف )كانط( للتوفيق بين مصادر المعرفة عند الفلسفة التجربية والفلسفة العقلية. وأسس قاسم مشترك بين العقل العملي والعقل المحض ، ولذا المعرفة عند كانط ليست عقلية محضة ولاتجريبية صرفة.
أما النقد بالمعنى الفكري يظهر عندي وكأنه يتجاوز عمليتي التقييم، والتقويم للموضوع المنقود بل يهدف تجديد الفكر، وحذف كل الأفكار الميتة التي لم تعد ذات قيمة بحكم الزمن، كل الأفكار لها مدة صلاحية ثم تفقد صلاحيتها بعد مضي مدتها، آلية تطور الفكر هي تساقط كل الأفكار القديمة مثل تساقط الأوراق القديمة في الشجرة النفضية لتحل محلها أوراق، أو )أفكار جديدة(.
ولهذا يمكن تقريب هيئة الناقد بأنه يشبه «الجنايني» الذي يقلم الأغصان الزائدة والميتة، هكذا يبدو الناقد من زاوية نظر فكرية بأنه ملقم الافكار الزائدة عن الحاجة أو الأفكار الميتة، أو المشوه وبذا يكون النقد هو حالة مستمرة لتجديد آليات الفكر وأساليب الأدب ومدارس الفن عبر ممارسة النقد.
والقاعدة تقول: الثابت الوحيد في الحياة هو التغير الدائم، والمستمر قانون أساسي في كل تفاصيل حياة والتوقف يعني الموت.