فنون

ماما عويشة 1953 / 2024 بعد إبحار في زمنين .. رحلت عويشه

عبد المجيد العكاري

‭)‬بين‭ ‬زمنين‭( ‬كانت‭ ‬حياتها،‭ ‬زمنُ‭ ‬البداياتِ‭ ‬للبث‭ ‬الإذاعي،‭ ‬وفي‭ ‬سنواته‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬كان‭ ‬بسيطًا،‭ ‬ومتواضعًا،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإذاعية،‭ ‬والتقنية‭ ‬الفنية‭ ‬مرورًا‭ ‬بالبرامج‭ ‬المسجلة،‭ ‬والأشرطة‭ ‬الدوارة،‭ ‬وبين‭ ‬زمنٍ‭ ‬آخر‭ ‬ارتقى‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬البرامج‭ ‬معلبةً‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬أشرطتها‭ ‬بل‭ ‬أضحتْ‭ ‬تبث‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬النَّاسِ‭ ‬وعلى‭ ‬الهواء‮…‬

هكذا‭ ‬كانت‭ ‬الراحلة‭ )‬العمَّة‭ ‬عويشه‭( ‬طيّب‭ ‬اللهُ‭ ‬مرقدها‭ ‬‮…‬كنتُ‭ ‬أراها‭ ‬في‭ ‬ردهات‭ ‬الإذاعة‭ ‬فى‭ ‬أواسط‭ ‬الستينيات‭ ‬جيئة‭ ‬وذهابًا‭ ‬بين‭ )‬استوديو‭ ‬التسجيل،‭ ‬وقسم‭ ‬التنسيق‭(‬؛‭ ‬حيث‭ ‬العم‭ ‬الراحل‭ )‬الصادق‭ ‬صويد،‭ ‬والراحل‭ ‬شعيب،‭ ‬وآخرون‭(. ‬أقول‭ ‬هذا‭ ‬وأنا‭ ‬لم‭ ‬ابدأ‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬بعد‭ ‬فقط‭ ‬كنتُ‭ ‬أقدم‭ ‬برنامجًا‭ ‬أسبوعيًا‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان،‭ ‬وأزور‭ ‬الاذاعة‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬فى‭ ‬الأسبوع‭ .. ‬وتشاء‭ ‬الظروفُ‭ ‬أن‭ ‬ألتحق‭ ‬بسلك‭ ‬الإذاعيين‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لتصبح‭ )‬الحاجة‭ ‬عويشه‭( ‬زميلة‭ ‬تعتز‭ ‬بزملائها،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬زميلات‭ ‬أخريات‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬الجهة‭ ‬الأخري‭ ‬من‭ ‬الإذاعة‭ ‬ببنغازى،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الفن‭ ‬والفنون‭ ‬والإذاعة‭ ‬مكانًا‭ ‬غير‭ ‬مناسب‭ ‬لعمل‭ ‬المرأة‮ ‬‭ ‬آنذاك،‭ ‬فكانت‭ ‬الفتاة‭ ‬التى‭ ‬تلتحق‭ ‬بهذا‭ ‬العمل‭ ‬تلاقي‭ ‬ما‭ ‬تلاقيه‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬يعرفها‭ ‬الكثيرون‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬و‭ ‬المجتمعي‭  ‬فى‭ ‬خضم‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬باشرتْ‭ )‬الراحلة‭( ‬مسيرتها‮ ‬‭ ‬بتقديم‭ ‬البرامج‭ ‬من‭ ‬خلال‭ )‬ما‭ ‬يطلبه‭ ‬المستمعون،‭ ‬والأسرة‭ ‬والمجتمع‭( ..‬وربما‭ ‬برامج‭ ‬الأفراح،‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬توليها‭ ‬فقرات‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬البرامج‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬كالفراشة‭ ‬وهي‭ ‬تتحرك‭ ‬بين‭ ‬الزملاء‭ ‬تحييهذا‭ ‬وتستقبل‭ ‬ذاك،‭ ‬تسبقها‭ ‬تحيات‭ ‬الصباح،‭ ‬والدعوات‭ ‬الصالحه‭ ‬للجميع‭ ‬،‭ ‬فهي‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬الأخت‭ ‬والعمة‭ ‬لكل‭ ‬زملائها،‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬السفاقسي،‭ ‬والمصراتي،‭ ‬والمطماطي‭ ‬وحواص،‭ ‬والتركي،‭ ‬والذين‭ ‬كنا‭ ‬نعتبرهم‭ ‬من‭ ‬الرواد‭ ‬الأوائل‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.  ‬ولعلنا‭ ‬نشير‭ ‬ونحن‭ ‬نتذكر‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ )‬المذيعة‭(‬،‭ ‬والفنانة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬وحتى‭ ‬الفنان‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يتقمص‭ )‬اسمًا‭ ‬آخر‭( ‬مراعاة‭ ‬للظروف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السائده‭ ‬والتى‭ ‬اشرنا‭ ‬إليها‭ ‬آنفًا،‭  ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬النَّاس‭ ‬كانتْ‭ ‬تتصور‭ ‬الإذاعة‭ ‬وبرامجها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ )‬دربوكه‭ ‬ومرونه‭ ‬بتثليت‭ ‬القافة،‭ ‬وبندير‭ ‬وطار‭(‬،‮ ‬‭ ‬ولهذا‭ ‬فكل‭ ‬من‭ ‬يلج‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬هو‭ ‬إما‭ ‬مغنٍ‭ ‬أو‭ ‬ضارب‭ ‬على‭ ‬الدف‭ ‬والطبل‭ ‬ولذلك‭ ‬عرفتُ‭ ‬الراحلة‭ )‬عويشه‭( ‬بـ«سعاد‭ ‬لامين‮»‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬حكاية‭ ‬ذكرتها‭ ‬بحكم‭ ‬قرابتها‭ ‬من‭ ‬الشيخ‭ ‬لامين‭ ‬قنيوة‭ ‬‮«‬خالته‮»‬‭ ‬،‭ ‬والذى‭ ‬استحسن‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬وبتزكية‭ ‬من‭ ‬الراحل‭ ‬كاظم‭ ‬نديم‭ ‬الذى‭ ‬بالتأكيد‭ ‬كان‭ ‬مبتهجًا‭ ‬ببدء‭ ‬دخول‭ ‬فتياتنا‭ ‬إلى‭ ‬دار‭ ‬الإذاعة‭ ‬الليبية‭ ‬والتى‭ ‬كان‭ ‬موقعها‭ ‬فى‭ ‬شارع‭ ‬الزاوية،‭ ‬والمنطقة‭ ‬المعروفة‭ ‬بـ«السمعة‭ ‬الحمراء‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬كانت‭ ‬البدايات‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الزملاء‭ ‬والرواد‭ ‬الأوائل‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الراحلة‭ ‬وجميع‭ ‬الراحلين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬السند‭ ‬والمرشد‭ ‬لزملائهم‭ ‬وزميلتهم‭ ‬كونها‭ ‬الوحيدة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تلتحق‭ ‬الأخريات‭ ‬بالركب‮ ‬‭ ‬واحدة‭ ‬بعد‭ ‬الأخرى‭ ‬على‭ ‬فترات‭ ‬متباعدة‭ ‬حيث‭ ‬انتقلت‭ ‬الإذاعة‭ ‬لشارع‭ ‬الشط‭ ‬فى‭ ‬مقرها‭ ‬المعروف‭ ‬الآن‭ ‬والذي‭ ‬اضحى‭ ‬يعج‭ ‬بالإذاعيين‭ ‬القدامى‭ ‬والجدد،‭ ‬العمل‭ ‬الاذاعي‭ ‬تطور‭ ‬أسلوبًا‭ ‬وتقنية‭ ‬وبالتالي‭ ‬فقد‭ ‬فتح‭ ‬مجال‭ ‬للابتكار‭ ‬والإبداع‭ )‬لباقات‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬المنوعة‭( ‬وفى‭ ‬غمرة‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬استمرت‭ ‬‮«‬الراحلة‭ ‬عويشه‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬انقطاع‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭ ‬غابت‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الاذاعة‭ ‬والبرامج‭ ‬لظروف‭ ‬خاصه‭ ‬عادت‭ ‬وفى‭ ‬جعبتها‭ ‬أفكارًا‭ ‬لبرامج‭ ‬تتسم‭ ‬بالحداثة،‭ ‬قدمتها‭ ‬إلى‭ ‬المستمع‭ ‬والمستمعة‭ ‬فى‭ ‬بث‭ ‬فوري‭ ‬تتجاذب‭ ‬فيه‭ ‬مع‭ ‬المستمعات‭ ‬أمور‭ ‬البيت‭ ‬والطبخ‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬الليبية‭ ‬والطرابلسيه،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بلكنة‭ ‬طرابلسية،‭ ‬يعرفها‭ ‬ويدركها‭ ‬أهل‭ ‬المدينه‭ ‬وخصوصًا‭ ‬عندما‭ ‬تتناهى‭ ‬إلى‭ ‬أسماعهم‭ ‬عبر‭ ‬‮«‬الراديو‮»‬‭ ..‬

هكذا‭ ‬كانت‭ ‬سعاد‭ ‬لامين‭ ‬‮«‬والعمة‭ ‬عويشه‮»‬‭ ‬الاذاعية‭ ‬التى‭ ‬مُلئِتْ‭ ‬شغفًا‭ ‬وحبًا‭ ‬لمجال‭ ‬الاذاعة‭ ‬وعالمها‭ ‬المتسع‭ ‬والفسيح،‭ ‬فكانت‭ ‬رحلتها‭ ‬‮«‬بين‭ ‬زمنين‮»‬،‭ ‬وفى‭ ‬كليهما‭ ‬لم‭ ‬تألوا‭ ‬جهدًا‭ ‬فى‭ ‬إبراز‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬جعبتها‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬تحولتْ‭ ‬إلى‭ ‬برامج‭ ‬متعدَّدة،‭ ‬أوصلتها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬لنشر‭ ‬ما‭ ‬تعلق‭ ‬بمجتمعها‭ ‬من‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬تمثلت‭ ‬فيما‭ ‬عرف‭ ‬بالمقولات‭ ‬المتداولة‭ ‬أهل‭ ‬طرابلس‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬حمل‭ ‬عنوان‭ )‬البوقالة‭( ‬يتضمن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬التى‭ ‬حملتها‭ ‬تلك‭ ‬المقولات‭ ‬فى‭ ‬لفظها‭ ‬ومعناها‭ ‬فكانت‭ ‬خلاصة‭ ‬الخلاصة‭ ‬لما‭ ‬يدور‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬الطرابلسي‭ ‬والليبي‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬وعبارات‭ ‬وردتْ‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الاقدمين‭ ‬من‭ ‬الجدات‭ ‬والأمهات‭ ‬لتشكل‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الأمثال‭ ‬‮…‬‭.‬

وعندما‭ ‬نقول‭ ‬إنّ‭ ‬الزميلة‭ ‬الراحله‭ ‬قد‭ ‬عاشتْ‭ ‬بين‭ ‬زمنين‭  ‬فإنها‭ ‬فعلاً‭ ‬عايشتْ‭  ‬القديم،‭ ‬والجديد‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإذاعة‭ ‬وبرامجها‭ ‬أم‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المذيعين‭ ‬والمذيعات‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التقدم‭ ‬الإعلامي‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬أسلوبًا‭ ‬وطريقة‭ ‬وأداء‭.   ‬وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬كان‭ ‬صوتها‭ ‬المميز‭ ‬ينطلق‭ ‬فى‭ ‬فضاءات‭ ‬البلد‭ ‬المترامية‭ ‬الأطراف،‭ ‬لتتبادل‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬مع‭ ‬المستمعات‭ ‬الحديث‭ ‬فى‭ ‬برامج‭ ‬الأسرة‭ ‬والتى‭ ‬كانت‭ ‬خط‭ ‬سيرها‭ ‬ورحلتها‭ ‬عبر‭ ‬اثير‭ ‬الاذاعة‭ ‬الليبيه‭ ‬وقبلها‭ )‬دار‭ ‬الإذاعة‭( ‬‮…‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬زميلتنا‭ ‬‮«‬الخلوقة‮»‬،‭ ‬والمحبة‭ ‬والموجهة‭ ‬لزملائها‭ ‬وزميلاتها‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬الاخت‭ ‬التي‭ ‬تحنو‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬الزملاء‭ ‬شبابا‭ ‬وشابات‭ ‬والكل‭ ‬يعتبرها‭ ‬المرجع‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمجتمع‭ ‬من‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬صحبة‭ ‬زميلات‭ ‬لها‭ ‬سواء‭ ‬فى‭ ‬الاذاعة‭ ‬او‭ ‬خارجها‭ .‬

وما‭ ‬هذا‭ ‬إلا‭ ‬غيض‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬رحلة‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬مع‭ ‬الإذاعة‭ ‬والإذاعيين‭ ‬والمستمعين،‭  ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬الراحلة‭ ‬العزيزة‭ ‬والزميلة‭ ‬الخلوقة‭ ‬والاخت‭ ‬التي‭ ‬إن‭ ‬ذكرت‭ ‬فانما‭ ‬تذكر‭ ‬بخير،‭ ‬نسأل‭ ‬الله‭ ‬العلي‭ ‬القدير‭ ‬أن‭ ‬يغفر‭ ‬لها‭ ‬ويسكنها‭ ‬المقام‭ ‬الأعلى‭ ‬من‭ ‬الجنة‭ .. ‬

عزاؤنا‭ ‬لأسرتها‭ ‬وأهلها‭ ‬وأحبائها‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬أو‭ ‬خارجها‭ .. ‬ولا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬الا‭ ‬بالله‭ ..‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى