رتوش

يجيك الشتا وتشقي

معمر الزايدي

يحكوا‭ ‬على‭ ‬راعي‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬الأول‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬إدخال‭ ‬قطيعه‭ ‬من‭ ‬‮«‬الأغنام‭ ‬والماعز‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الزريبة‭ ‬بعد‭ ‬إنتهاء‭ ‬يومه‭ ‬المعتاد‭ ‬من‭ ‬رعيها‭ ‬في‭ ‬السهول‭ ‬وكان‭ ‬الماعز‭ ‬المعروف‭ ‬بشقاوته‭ ‬لكأنه‭ ‬يرفض‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬الزريبة‭ ‬ومازال‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬اللعب‭ ‬وإفساد‭ ‬الشجر‭ ‬والزيتون‭ )‬كعادته‭( ‬الراعي‭ ‬يحاول‭ ‬جاهداً‭ ‬إدخاله‭ ‬صائًحا‭ ‬بلغة‭ )‬المعيز‭( .. )‬إري‭.. ‬إري‭.. ‬إخنخ‭ ..( ‬وهي‭ ‬ألفاظ‭ ‬يقال‭ ‬إنها‭ ‬تستعمل‭ ‬لزجر‭ ‬‮«‬المعيز‮»‬‭ ‬حسب‭ ‬الدارج‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬أحدًا‭ ‬ما‭ ‬إبتكرها‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬مخالطته‭ ‬لها‭ ‬وتبينت‭ ‬له‭ ‬جدواها‭ ‬فأطلع‭ ‬عليها‭ ‬المهتمين‭ ‬بالشأن‭ ‬الماعز‭ ‬وعلم‭ ‬نفس‭ )‬البراشن‭( ‬لتصبح‭ ‬مادة‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬والمعيز‭ ‬ويقال‭ ‬إنها‭ ‬تصلح‭ ‬حتى‭ ‬للخرفان‭ ‬وهي‭ ‬مؤثرة‭ ‬في‭ ‬القطيع‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬اللهجات‭ ‬إن‭ ‬صحت‭ ‬التسمية‭ ‬

فـ‭)‬البرشني‭( ‬وهو‭ ‬‮«‬تيس‮»‬‭ ‬الماعز‭ ‬وكبير‭ ‬القوم‭ ‬لديهم‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ )‬أري‭(.. ‬تعني‭ :‬توقف‭ ‬أو‭ ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬التصرف‭ ‬غير‭ ‬مقبول‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المشترك‭ ‬

‭)‬والكبش‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ) ‬أُرُج‭(.. ‬تعني‭ ‬المعنى‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬إختلاف‭ ‬اللفظ‭ ‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬كأعراق‭ ‬مختلفة‭ ‬يعرفون‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬وما‭ ‬يجب‭ ‬بمجرد‭ ‬سماعهم‭ ‬للفظ‭ ‬كل‭ ‬فيما‭ ‬يخصه‭ ..‬

الحاصل‭ ‬تعب‭ ‬الراعي‭ ‬وهو‭ ‬يجاهد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نهي‭ ‬‮«‬البرشني‮»‬‭ ‬عن‭ ‬العبث‭ ‬والخروج‭ ‬عن‭ ‬السياق‭ ‬والمتفق‭ ‬عليه‭ ‬وهو‭ ‬يهرب‭ ‬ويرفض‭ ‬الإستجابة‭ ‬معلناً‭ ‬تمرده‭ ‬على‭ ‬راعيه‭ ‬ويبدو‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬شعر‭ ‬بالظلم‭ ‬وإنتابته‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬تمضية‭ ‬الوقت‭ ‬كما‭ ‬يحب‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬كما‭ ‬يريد‭ ‬راعيه‭ ‬حتى‭ ‬أنُهك‭ ‬الراعي‭ ‬فتركه‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬له‭ )‬إري‭ .‬‭. ‬إري‭ ..( ‬والبرشني‭ ‬يرفض‭ ‬الإنصياع‭ ‬

‭)‬مسكر‭ ‬رأسه‭( ‬فقال‭ ‬له‭ ‬الراعي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الأمر‭:‬

‭)‬تو‭ ‬يجيك‭ ‬الشتاء‭ .. ‬وتشقي‭( .‬

الراعي‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬قرة‭ ‬العنز‭ ‬لا‭ ‬ترحم‭ ‬المعيز‭ ‬لأنهم‭ ‬غير‭ ‬محصنين‭ ‬بالصوف‭ ‬كالأغنام‭ ‬والبرشني‭ ‬متهور‭ ‬ولا‭ ‬يعقل‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬منبهر‭ ‬بإنطلاقه‭ ‬وكسره‭ ‬لأوامر‭ ‬وقيود‭ ‬الراعي‭ . ‬

الحاصيلو‭ ‬تركه‭ ‬الراعي‭ ‬لقدر‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬معروفاً‭ ‬ولا‭ ‬ينجو‭ ‬منه‭ ‬الا‭ ‬طويل‭ ‬العمر‭ ‬وإن‭ ‬نجا‭ ‬فسيكون‭ ‬معلولا‭ ‬ولا‭ ‬يصلح‭ ‬لشيء‭ ..‬

هذي‭ ‬القصة‭ ‬ذكرتني‭ ‬بثقافة‭ ‬القطيع‭ ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬لستُ‭ ‬معها‭ ‬ولا‭ ‬ضدها‭ ‬أيضا‭ ‬الا‭ ‬أني‭ ‬أري‭ ‬بوجوبها‭ ‬إذا‭ ‬ماكانت‭ ‬تفيد‭ ‬السلامة‭ ‬والإيجابي‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ .‬

حتى‭ ‬القطيع‭ ‬بحكمه‭ ‬نظام‭ ‬يميزه‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬القطعان‭ ‬ويشكل‭ ‬هويته‭ ‬ونمط‭ ‬حياته‭ ‬أي‭ ‬عاداته‭ ‬ولغته‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬المتفق‭ ‬عليها‭ ‬ومن‭ ‬يشذ‭ ‬عنها‭ ‬ينبذ‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬المحموعة‭ ‬ويصير‭ ‬بالتالي‭ ‬منفيا‭ ‬عنها‭ ‬وغير‭ ‬مؤثر‭ ‬فيها‭ ‬بجنوحه‭ ‬وسلوكه‭ ‬وعلى‭ ‬إمتداد‭ ‬الزمن‭ ‬تعودت‭ ‬حياتهم‭ ‬وبناهم‭ ‬الجسدية‭ ‬والفكرية‭ )‬طبعاً‭ ‬الفكرية‭ ‬كنمط‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬البشر‭ ‬مؤثر‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬الحيوان‭( ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مشابهاً‭ ‬بإعتبار‭ ‬أننا‭ ‬نقول‭ ‬إنها‭ ‬تعلمتها‭ ‬بحكم‭ ‬تعودها‭ ‬وتكرارها‭ ‬لها‭ ‬بفضل‭ ‬البشر‭ .. ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬موضوعنا‭ .‬

فالحكاية‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬السياق‭ ‬ضارٌ،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬معرفتك‭ ‬هي‭ ‬المعرفة‭ ‬الكاملة‭ ‬الشاملة‭ ‬فإنك‭ ‬إن‭ ‬عرفت‭ ‬شيئًا‭ ‬غابت‭ ‬عنك‭ ‬أشياء‭ ‬وتمسكك‭ ‬برأيك‭ ‬سيقودك‭ ‬مباشرة‭ ‬الى‭ ‬الإحتمالات‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬للضرورة‭ ‬والنسبية‭ ‬وهي‭ ‬مصير‭ ‬حتمي‭ ‬نسير‭ ‬نحوه‭ ‬ونتطلع‭ ‬لجعله‭ ‬زاهراُ‭ ‬ومفعما‭ ‬بالمسرات‭ .‬

وليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬الإنصياع‭ ‬المباشر‭ ‬والسريع‭ ‬العاطفي‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬العقل‭ ) ‬إن‭ ‬توفر‭( ‬سيكون‭ ‬قائداً‭ ‬وراعٍ‭ ‬شفوق‭ ‬ومهتم‭ ‬بالمصلحة‭ ‬فماذا‭ ‬لو‭ ‬إستمعنا‭ ‬له‭ ‬ونظرنا‭ ‬حولنا‭ .. ‬

سنجد‭ ‬الأفق‭ ‬مليء‭ ‬بالصراخ‭ ‬اللحوح‭ ‬يدعونا‭ ‬للتوقف‭ ‬والتساؤل‭ ‬الضروري‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‭ ‬للعب‭ ..‬

وهل‭ ‬نعي‭ ‬أننا‭ ‬نلعب‭ ‬بمصائرنا‭ ‬وبلادنا‭ ‬وأننا‭ ‬بذلك‭ ‬نقودها‭ ‬مباشرة‭ ) ‬لقرة‭ ‬العنز‭ ( ..‬

وأن‭ ‬الشتاء‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬قاسيًا‭ ‬ولا‭ ‬يحتمل‭ ..‬

أترانا‭ ‬نتنازل‭ ‬عن‭ ‬العبث‭ ‬الذي‭ ‬نمارسه‭ ‬يومياً‭ ‬مقابل‭ ‬القيمة‭ ‬التاريخية‭ ‬والإحترام‭ ‬الحقيقي‭ ‬للنظام‭ ‬ولأنفسنا‭ ‬وللبلاد‭ ‬التي‭ ‬إختنقت‭ ‬بعقلية‭ ‬‮«‬البرشني‮»‬‭ ‬المطلوس‭ ..‬

أرجو‭ ‬ذلك‭ ‬والا‭ ‬فإننا‭ ‬سنواجه‭ ‬شتاءً‭ ‬تاريخياً‭ ‬لم‭ ‬يذكر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ .‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى