رأي

الاستقالة

يونس الفنادي

لعلها تكون تكفيراً الذنوب والظلم الذي اقترفوه في حق البلد وجميع أهله، وكذلك تجاه التقصير الكبير البيّن في تعمير ورعاية وصيانة المدن كافةً وخاصة المتضررة وعلى رأسها مدن الجبل الأخضر في «برقة» التي نُكبت في أهلها ومعالمها التاريخية، لأنهم بدلاً من الحرص والاهتمام بالوطن، تغولوا بانشغالهم الدائم في إثارة الصراعات الداخلية والفتن بين القبائل، وشن الحروب بين المدن، والتباهي بالسلاح وزيادة سطوة المليشيات لتقاسم المغانم معها، والتفاخر بتحقيق المكاسب الشخصية والمناصب العليا النافذة، بعقلية مناطقية صرفة دون أدنى تفكير أو التفات إلى بناء الدولة الشاملة ومصلحة المواطنين البسطاء في كامل ترابها، والتعاطي مع القضايا بحسٍّ وطني رفيع وغيور. ولعلها تكون رجوعاً إلى الاعتراف بحقيقة مستوياتهم العلمية الضعيفة المتدنية، وانعدام أهليتهم وخبراتهم الفكرية والعملية للقيادة السياسية في إدارة سياسات وقضايا الوطن وبالأخص برامج فض النزاعات والمصالحة والتشريع والنهوض بالبلاد، في جميع المجالات، وبالتالي حان الوقت وصار لازماً وضرورياً لإعادة المناصب التي احتكروها سنواتٍ طويلة لمستحقيها الأكفاء الحقيقيين!

ولعل هذه (المحنةُ) الطبيعية المتمثلة في إعصار «دانيال» الكارثي، تصبح (مُنحةً) قدرية سخرها الله سبحانه وتعالى لبدء حياة جديدة لليبيين، وفتح صفحة تاريخية ناصعة بالمصالحة والمحبة، تمثلت أبرز مظاهرها العملية في هذا الاستنفار الجماعي العظيم والتكاثف الأخوي والتلاحم الإنساني العفوي بينهم، وتلاشي تصنيفات الشرق والغرب والشمال والجنوب، والأزلام والثوار، وديسمبر وسبتمبر وفبراير، تجسيداً للمثل الشعبي (خوك خوك يعاركك ولا يعاديك)، وصدى ذاك العهد الأخوي والقسم الرباني الذي تعالى وتردد مدوياً في سماء الوطن من الغرب إلى الشرق (واللهِ العالي في سماهوربّ العرش ومَنْ بناهلو رشادة تطيح غادي عندكمما بتلقونا إلاّ بحذاكم)، وبالتالي عودة العقل الإنساني بهويته الليبية الأصيلة إلى مسار سكة التفكير السوي السليم للتوحد والتشارك، واستبدال مفردة (إغاثة) بكلمة (فزعة) ذات الصبغة والهوية الليبية الخاصة، وهذه التغيرات كلها تعيدنا إلى ارهاصات «فبراير» وربما حتى قبلها منذ كارثة زلزال مدينة المرج سنة 1963م الذي لازال في ذاكرة الليبين كنموذج للتلاحم والتضامن الإنساني الوطني!. ولعلَّ الله أراد فعلاً تخفيف أهوال الأمر على كلِّ السياسيين والمسؤولين الليبيين الملوثين بالفساد فسخر لهم هذه الفرصة التاريخية للتوبة، والرجوع إلى مفاهيم الوطنية الصادقة النقية الحقيقية، والتوقف عن مزيد تشويهها واستغلالها والقفز عليها أحياناً وارتداء جبتها غالباً، والاكتفاء بما مارسوه من سرقة ونهب ونصب واغتصاب وفساد وخبث ودهاء وقتل وارهاب وتخريب واقتتال وحروب وظلم في حق ليبيا طال أهلها البسطاء جميعاً ومدنها وقراها البسيطة كافةً.

فهل نقرأ قريباً فصلاً جديداً في المشهد السياسي الليبي بعنوان (عودةُ الوعي) يسطره السياسيون في مجلس النواب، ومجلس الدولة، ورئاسة وأعضاء الحكومات كافةً، والمسؤولون الليبيين في المناصب التي احكتروها لسنوات طويلة، يكون على غرار كتاب الأديب المصري توفيق الحكيم في سبعينيات القرن الماضي، يعلنون فيه استفاقاتهم ورجوعهم إلى الهدى بعد الضلال، بتقديم استقالاتهم الجماعية، والاعتذار للشعب الليبي، وإتاحة المجال لكفاءات ليبية شابة وطاقات جديدة، ترمم ما تصدع من هذا الوطنوهو كثيروتنهض به متقدماً بين الدول؟

وهل سيفعلون ذلك بإراداتهم الطوعية الحرة (وعفى الله عمّا سلف) أم ينتظرون أن تكتسحهم الناس وتقتلعهم وتنتفض عليهم بذات القوة والثورة والشجاعة التي قادت المظاهرات والاعتصامات والعصيان وكذلك فوضى غلق الطرق والشوارع والاضرابات  والحرائق والتخريب وغيرها؟. فالليبيون بعد أن حطموا في داخلهم حواجز الخوف وتخلصوا من عهود المهانة والمذلة حين أسقطوا جبروت (القذافي وأولاده،) وأتباعهم من منتسبي «الحرس الثوري» و»اللجان الثورية»، فإنهم لن يخشوا (حفتر وأولاده) وعناصر «الجيش الليبي» المزعوم في الشرق، ولا المليشيات الإرهابية المسلحة المجرمة في الغرب، فالأمر أصبح سيان طالما الجثت تتكدس بالآلاف في شوارع  وطرقات درنة وسوسة وشحات والبيضاء والجبل الأخضر .. وصار اليقين بأن الموت بسبب السيول والكوارث هو نفسه الموت بالرصاص والاعتقال والتعذيب والاغتيال .. لا 

فرق.. فهل ننتظر استقالةً جماعيةً أم انتفاضةً جماهيريةً خلال الشتاء القادم وهو على مرمى أيامٍ قريبةو»رُبَّ ضارةٍ نافعة»؟أ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى