لم نعرف المسؤول ولا تعداد من فقدناهممضى على الفاجعة شهران ولا يزال سكان درنة عالقون في أحداث ليلة الحادي عشر من سبتمبر الماضي. لم يٌخيل لأهل المدينة الوادعة أن الوادي الذي استأنسوا له طيلة أعوام سيغدر بجيرانه وأن شارع الحشيشة وذيل الوادي ووسع بالك سيضيق بالهن وتتحول شوارعه المؤنسة إلى ركام تقبع تحته الاشلاء. الفاجعة التي حلت بالدراونة انفطرت لها القلوب وادمت من هولها المآقي.
تقرير/رجاء الشيخي وعد مرور أكثر من 60يومًا لا تزال عظام الضحايا تُنتشل من البحر، في الوقت الذي لم يتم إعلان أي نتائج للتحقيقات المزعومة، ولم يُحاسَب أي من المسؤولين الحقيقيين، بل لم يُعلن حتى عن عدد الضحايا الحقيقي. المدينة التي ابتلع البحر سكانها نهضت ترمم ذاتها وتبحث عن أشلاء بعضها تواسي من نجى وترثي من رحل. أعلنت المدارس استئنافها وبدأت الحياة تدب بخطوة مثقلة بين أهالي المدينة.
ولأهمية ودور الدعم النفسي والاجتماعي خاصة لطلاب المدراس الذين لم يسلموا من هول الفاجعة .. تقول الاخصائية النفسية سعاد قنيدة إن هذه المرحلة تتطلب دعماً نفسياً اكثر من أي امر آخر ان تربت على قلوبهم المفجعة وعقولهم المثخنة بصور الفقد لا بد من تفعيل دور الدعم النفسي في كافة المدراس باختلاف المراحل التعليمية الكل في أمس الحاجة لإخراجه مما علق بذاكراته عملنا منذ النازلة على وضع خطط لمواجهة الكارثة نفسيا واجتماعيا كيف يمكننا نحن كاختصاصيين نفسيين ان نعالج الوضع خاصة للأطفال وهم أكثر الفئات تأثيرا وتأثرا وما يمكن أن يلحق بهم من اذى نفسي قد يتحول مع الوقت لسلوكيات عدوانية واضطرابات نفسية ..
وفي السياق ذاته أكدت اختصاصية الدعم النفسي مرعية العماري أن التلاميذ في مراحل التعليم المبكرة يصبحون الأكثر تضرراً من وقوع الأزمات والكوارث سواء على نطاق الاسرة أو على نطاق أوسع لأنهم يتسمون بالحساسية الشديدة تجاه أي تغيرات تطرأ على حياتهم حيث تسبب لهم الارتباك والتشويش وتعزز مشاعر الخوف والقلق خاصة مع عدم القدرة على التكيف السليم معها لذا فهم يحتاجون إلى الدعم النفسي الذي يعزز قدراتهم الاستيعابية وإكمال مسيرتهم التعليمية والارتقاء بأدائهم الدراسي. العماري طالبت بضرورة اتاحة الفرصة للإختصاصيين الاجتماعيين والمرشدين النفسيين في تفعيل دورهم خلال هذه الفترة وحتى الفترة القادمة وذلك بإجراء العديد من الدورات التدريبية التي تخص الأزمات وخاصة الطبيعية وطبعاً الهدف يكون مركز على مجموعة التلاميذ الذين تعرضوا لمثل هذه الأزمة وهناك علاج ما بعد الصدمة وهو ضرورة تدريب المرشدين النفسيين على هذه الإجراءات واستقبال الطلبة وتفعيل دور الاخصائي والاجتماعي والمرشد النفسي ونتمنى من الله العلي القدير أن يوفقهم في هذا العمل.
وأوضحت الاختصاصية أن مراحل الصدمات النفسية التي يمر بها من تعرض لها وهي أولاً مرحلة الطوارئ أو الذكريات الإقتحامية وتكون هذه المرحلة مباشرة بعد التعرض للصدمة النفسية بمختلف أنواعها ويحاول فيها الفرد التكيف والتعايش معها ويعاني فيها من عدة أمراض مثل القلق واليقظة واسترجاع الاحداث والاحلام والكوابيس المزعجة والتي تتمركز حول الحدث والضغط العاطفي الحاد وهناك ردود الفعل الجسدية مع كل ما يُذكر المصاب بالحدث وهناك الشعور بالذنب أحياناً بعد ذلك تأتي مرحلة الإنكار أو التجنب ويتعرض لهذه المرحلة بعض الأفراد وليس بالضرورة جميع المتعرضين للصدمة النفسية من خلال تجنب التفكير في الحدث وكل ما يدور حوله والابتعاد عن الأماكن والأنشطة المرتبطة به بالإضافة إلى تجنب الأشخاص الذين يذكرونه به ، وتأتي مرحلة التعافي على المدى القصير والتي يحاول فيها المصاب العودة لحياته اليومية وعيشها بتفاصيلها بالشكل الطبيعي وتستمر خلال هذه المرحلة الكوابيس والأفكار السلبية التطفلية التي تجعل من سير الحياة بسلاسة امراً صعباً ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأشخاص خلال هذه المرحلة يتعاملون مع الوضع بطريقتين وهي إما أن تقبل مساعدة الأشخاص والأفراد المقربين لتخطي الأزمة أو الشعور بخيبة الأمل والسخرية تجاه هذه المساعدات في مرحلة التعافي على المدى الطويل اشارت الاختصاصية النفسية سعاد القطراني الى ان بعض الأعراض تستمر مع الشخص مثل الكوابيس والقلق ولكن مع تقديم الدعم النفسي المستمر من قبل الأفراد المقربين والأصدقاء المحيطين والعلاج من أهل الاختصاص تنتهي هذه الاعراض ويبدأ المصاب بالعودة لحياته اليومية بشكل طبيعي.
تعددت الروايات عن أحداث ليلة الكارثة واختلفت التفاصيل والرواة ولكن الجرح واحد الكل فقد أهله وأبناءه وإخوته حتى الناجيين لم يسلموا من هول الفاجعة اصابهم الفزع وظلت تلاحقهم صور ومشاهد تلك الليلة الفاجعة.
وكأنه لمحة من يوم القيامة هكذا وصف أحد الناجين من السيل ليلة الحادثة الكل يبحث عن ذويه الأطفال يستغيثون بالله يناجونه ان يوقف المياه أحدهم يردد الله أكبر الله أكبر وآخر يطلب من ربه أن يوقف المية من غابت عن ذهنه صوت أحدهم وهو يصرخ ياربي وقف المية ياربي وقف الميه. نساء عالقات في بيوتهن يصرخن ملء السماء حي علينا ياربي ياربي قالوا إنهن من بين ثلاث عمارات سكنية ابتلعها البحر ولم يبقى لهن أثر.
شباب يصرخون في شوارع مدينتهم الخاوية على عروشها ويستنجدون بالعالم لنبش الركام وإخراج أهلهم العالقين تحت الأنقاض فتاة لم تبلغ العشرين من عمرها تروي بهول ما حدث لأهلها تقول انها وامها كانتا في المطبخ يعد ان القهوة لأخوتها ووالدها (في لمح البصر حدث الأمر المية غمرت بيتنا صعدنا الى السطح كنا نركض والمياه تركض خلفنا مشهد تشخص فيه الابصار كانت أمي تركض برفقة نساء العمارة (عمارة الأوقاف) ناديتها يامي يامي التفتت نحوي وكأنها تودعني اخذهم السيل ولم يبقي لي أحد منهم اخوتي أمي باتي كلهم عدوا العمارة بسكانها ابتلعها السيل.
وجدت نفسي متشبثة بجذع شجرة وكنت اصرخ يالله يالله ونسمع في أصوات رجال يحثونني على الصمود السواد الحالك يغطي المكان لم أر شيئاً مجرد أصوات تصرخ من حولي نساء يطلبن الي ان اتمسك بقوة وان منسوب المياه بدأ يقل والله ليلة تحكي ألف عام ولن تمل من الصراخ في كل مرة تذكر فيها احداثها وتفاصيلها المرعبة. بزغ الفجر وبدأت الأصوات الصارخة والراجفة تختفي قدموا لنجدتي رجال المنطقة أنزلوني من الشجرة واحمد الله أنى بكامل سترتي ولم تتمزق ملابسي. علمتوا أني الناجية الوحيدة من عمارة الأوقاف أكثر من 50 روحا غادرت في لحظة من لحظات القدر المفجعة..الكل مكلومين بفقد ذويهم هناك من يصرخ مليء الحزن اعويلتي راحوا حوشي رزقي اهلي خوتي عمامي خوالي كلهم راحوا في ثانية انهار السد علينا ما تسمع إلا صوت العويلة يتباكوا والصبايا يتعايطن والمطر خيط من السماء الدنيا جرفها السيل العرب والبيوت والسيارات والشوارع القيامة قامت اللي كبر واللي يشهد واللي يستغيث بربه في دقايق راح كل شيء.
وادي درنة فيك يا وادي الشاعر الذي تحققت نبوءته ولم يسلم وأهله من الوادي الذي لطالما حذر مسؤولين بلاده من جراء اهمالهم للمدينة وواديها. في إحدى قصائده تساءل الشاعر على حال المدينة وما أصابها من كدر وحال يرثى له. وحتى ان السماء تغير لونها من شدة حزنها على المدينة وأهلها والأيام كما وصفها الشاعر تبكي بالدمع السكيب. لم يقف ابن درنة عند مجرد الوصف بل ناشد كل مسؤولي مدينته لمخاطر اهمال الوادي مؤكداً ان المسؤولين لن يهتموا الا بعد وقوع الكارثة. وقد صدقت نبوءتك جار الوادي.
شوارعها المؤنسة
أضحت ركامًا تحته الأشلاء