ثقافة

القرارُ الرطبُ

عمر أبو القاسم الككلي

كنا‭ ‬نسير‭ ‬تحت‭ ‬المطر‭. ‬مطر‭ ‬خفيف‭ ‬عامودي،‭ ‬كنتُ‭ ‬أحبُ،‭ ‬وأتعمد،‭ ‬أن‭ ‬أسير‭ ‬تحته‭. ‬أنتِ‭ ‬لا‭ ‬تحبين‭ ‬السير‭ ‬تحت‭ ‬المطر،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ثمة‭ ‬مكانٌ‭ ‬قريب‭ ‬يلائم‭ ‬لجوءنا‭ ‬إليه‭. ‬

‭)‬قالت‭ ‬ليَّ‭ ‬صديقة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬أن‭ ‬النساء‭ ‬يتجنبن‭ ‬السير‭ ‬تحت‭ ‬المطر،‭ ‬لأنه‭ ‬يفسد‭ ‬شعرهن‭ ‬ويفضحه‭!. ‬هكذا‭ ‬قالت‭(. ‬لكن‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬لديك،‭ ‬حينها،‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬للمطر‭ ‬لسبب‭ ‬مرتبط‭ ‬بي‭. ‬فاجأنا‭ ‬المطرُ‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬المغرب،‭ ‬فاقترحتُِ‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬مدخل‭ ‬إحدى‭ ‬العمارات‭. ‬استندنا‭ ‬إلى‭ ‬الحائط‭ ‬متلاصقين‭.‬‭ ‬وضعت‭ ‬رأسك‭ ‬على‭ ‬كتفي‭. ‬كنت‭ ‬استشعر‭ ‬الرغبة‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬جسدك‭ ‬مثلما‭ ‬يسري‭ ‬النسغ‭ ‬في‭ ‬النبات‭ ‬وتتوهج‭ ‬في‭ ‬روحك‭.‬

أنا‭ ‬أيضًا‭ ‬كانت‭ ‬بي‭ ‬رغبة‭.)‬لستُ‭ ‬أدري‭ ‬هل‭ ‬استشعرتِها‭ ‬أم‭ ‬لا‭(. ‬لكنَّني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬من‭ ‬النَّوع‭ ‬المغامر‭. ‬المكان‭ ‬غير‭ ‬آمن‭ ‬‮«‬ولم‭ ‬يتوفر‭ ‬لنا،‭ ‬أبدًا،‭ ‬مكان‭ ‬آمن‭(. ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬نزلتْ‭ ‬بضع‭ ‬قطرات‭ ‬من‭ ‬المطر‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬الشارع‭. ‬قلتِ‭ ‬تحدثين‭ ‬نفسك‭ ‬بصوت‭ ‬أردتِ‭ ‬أن‭ ‬أسمعه‭:‬

‭- ‬مطرٌ‭ !. ‬ليته‭ ‬يهطل‭ ‬بقوة‭!‬

كنا‭ ‬نسير‭ ‬تحت‭ ‬المطر،‭ ‬وكانت‭ ‬بيننا‭ ‬فترة‭ ‬وقتها‭. ‬كنا‭ ‬نسير‭ ‬صامتين‭ ‬غير‭ ‬واثقين‭ ‬في‭ ‬قدرة‭ ‬علاقتنا‭ ‬على‭ ‬التعافي‭ ‬التام‭ ‬والاستمرار‭. ‬كنتِ‭ ‬تسيرين‭ ‬مطأطئة‭. ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬تفعلين‭ ‬ذلك‭ ‬ونحن‭ ‬نسير‭ ‬معًا‭. ‬سألتك‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬السبب‭. ‬أجبتِ‭:‬

‭- ‬لأن‭ ‬العيون‭ ‬تفضح‭ ‬المشاعر‭ !‬

لم‭ ‬أعلق‭. ‬لم‭ ‬أسألك‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬مشاعرك‭ ‬نحوي‭ ‬لحظتها‭. ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬إلى‭ ‬سؤالك‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬هذه‭ ‬طبيعتي،‭ ‬عدم‭ ‬الإلحاح‭. ‬لكنَّني‭ ‬هجستُ‭ ‬فورًا‭ ‬بأن‭ ‬علاقتنا‭ ‬سائرة‭ ‬نحو‭ ‬الانفصام‭.‬

كان‭ ‬المطر‭ ‬مستمرًا‭ ‬في‭ ‬الهطول،‭ ‬وانتبهتُ‭ ‬فجأة‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬تقدمتُ‭ ‬عليك‭ ‬بضع‭ ‬خطوات‭. ‬التفتُّ‭. ‬وجدتك‭ ‬واقفة‭. ‬سألتك‭ ‬بجفاف‭ )‬أعترف‭(:‬

‭- ‬هل‭ ‬ستأتين؟‭! – ‬لا‭ ‬أدري‭.. ‬قلتُ‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬حانت‭ ‬اللحظة،‭ ‬إذن‭. ‬لقد‭ ‬اتخذت‭ ‬قرار‭ ‬الانفصال‭ ‬ورأت‭ ‬لحظتها‭ ‬أن‭ ‬يصلني‭ ‬قرارها‭ ‬رطبًا‭. ‬ومن‭ ‬العبث‭ ‬محاولة‭ ‬إثنائها‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭.. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬حينها‭ ‬أعرف‭ ‬بيت‭ ‬المتنبي‭ ‬القائل‭:‬

إذا‭ ‬تَرَحّلْتَ‭ ‬عن‭ ‬قَوْمٍ‭ ‬وَقَد‭ ‬قَدَرُوا

                    ‬أنْ‭ ‬لا‭ ‬تُفارِقَهُمْ‭ ‬فالرّاحِلونَ‭ ‬هُمُ

لكنَّني‭ ‬قلتُ‭ ‬لكِ‭:‬

بحزم‭ ‬وجفاف‭ ‬قاطعين‭:‬

‭- ‬عندما‭ ‬تعلمين‭ ‬أخبريني‭. ‬مع‭ ‬السلامة‭.‬

وشرعت‭ ‬في‭ ‬قطع‭ ‬الطريق‭ ‬والمطر‭ ‬يهطل‭. ‬لم‭ ‬تستوقفيني‭. ‬لم‭ ‬تناديني‭. ‬وكنتُ‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬تفعلي‭ ‬‮«‬أعترف‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى