ثقافة

تيرمينى.. إنتصار بوراوى.. رواية تعري تغول البرغماتية الغربية 

إنتصار بوراوي

 فى نقلة أخرى من نقلاتها الإبداعية، التى بدأتها في عالم القصة القصيرة والكتابة عن دهاليز مجتمع المرأة الليبية وعوالمها المسيجة ،برعاية ذكورية وتلاعب ومكر أنثوى للهروب ومواجهة التسلط والتحكم الذكوري ،وبعد أن عرت المجتمع الليبي ووخزته ونكزته في مجموعاتها القصصية بعقلها وفكرها ،دخلت لرحابة الرواية ،ونسجت في كل رواية عالم قائم بذاته من حيث اختلاف فكرة موضوع كل رواية ،عن الأخرى تنتقل نجوى بن شتوان في روايتها الجديدة «روما تيرمينى» الى روما بإيطاليا ،والى عالم النساء المسنات في إيطاليا بالبيوت التي يعشن فيها رفقة الوحدة والصقيع ، وعن نساء أوروبا الشرقية اللواتي يبحثن في إيطاليا عن العمل التي تجسد واحدة من قصصهن بطلة الرواية «نتاشيا» القادمة من أوكرانيا كمستأجرة في إحدى هذه البيوت ،لتلملم خيوط الرواية وقصص العجائز المتروكات دون رعاية من ابنائهن وبناتهن الذين استقلوا بحياتهم وتركوهن ليصارعن الأيام وحدهن.

تحل بطلة الرواية» نتاشيا «كمستأجرة في إحدى شقق عمارات، مدينة روما هاربة من جحيم الحرب في بلادها بحثا عن الحياة والعمل والانطلاق، بعيدا عن شبح الحرب التي تمزق بلادها فتنشأ بينها وبين العجوز التي استأجرت، غرفة بشقتها علاقة مودة واحساس بالتعاطف رغم سلاطة لسان العجوز «انا ماريا « وطلباتها، التي لاتنتهى ولكن الفتاة القادمة للحياة في بلاد غريبة لا تعرف فيها أحدا تمتلك من سعة الصدر والإرادة كي تواجه ما قد تلاقيه من أحداث مفاجئة بكثير من الحذر او كما تقول في إحدى فقرات الرواية:

«الحذر حارسي الشخصي، لن أخسر شيئاً إن تعلمت الحيطة وأمنت حياتي قدر ما أستطيع مما قد توقعني فيه شرور الأخرين ،كما لا ينبغي أن يشعر الناس أو يحسوا بأني أحذرهم أو أني اتخذت استراتيجية ما لحماية نفسي من خداعهم ربما كانت لهم نية في خداعي، وربما لا لكني لن أنتظر حتى تقع واقعتهم بي لأتعلم الحذر»

فثمة تربص من العجائز اللواتي تستأجر بطلة الرواية ،غرفة بشقتهن لمعرفة التفاصيل عن حياتها فيلجأن للتلصص وتفتيش غرفتها في غيابها ،ولأنها ذكية وحذرة بطبيعتهاتقوم بوضع جهاز يترصد ويسجل ما يقمن به من تفتيش وتنقيب في أغراضها خلال أوقات غيابها عن غرفتها.

«نتاشيا «الشخصية الرئيسة فى الرواية ، والتي تعمل خادمة لعجوز سليطة اللسان وفضولية وعجوز أخرى مريضة تبدو متحفظة جداً ،قليلة الكلام وحيادية جداً في التعاطي حولها وثمة برود فى شخصيتها كما رسمتها المؤلفة ،كما لو أنها تحولت إلى آلةٌ لا مشاعر ولاردات أفعال قوية لها تجاه ما يحدث في حياتها، فلقد انعدم اشتعال بالحياة فى روحها الميتة بفعل ما عاشته فى بلادها وواقعها كخادمة فى إيطاليا، أو لعل السبب هو تكوين المرأة الأوكرانية الأوروبية التي تتعاطى مع حياتها ،وما يحصل لها بنفعية وبرغماتية ولقد أبدعت المؤلفة في تقمص روح وتفكير امرأة من أوروبا المختلفة تماماً، عن روح المرأة الشرقية و العربية التي تحمل الكثير من الحرارة والانفعال في تكوينها كما تقول نتاشا في هذا المقطع من الرواية: 

جزء من صلابة المرء تتكون بفقدان شعوره البدائي بالألم، يتروض على البرودة والجمود بالتكرار، حتى يتعامل مع الألم وكأنه نزيل سيء يقاسمه سجناً.

يستمتع القارئ بتفاصيل السرد الجميل ، ليوميات نتاشيا مع العجائز وشخصية ليزا وكاميليا وكذلك بعلاقتها العاطفية بحمزاتوف، الذى ظهر في الرواية كطيف عابر وتعاملت معه نتاشيا ببرود تام ودون ردة فعل من جانبها حين أطلعها برغبته بالزواج من عجوز إيطالية من أجل المال .

وتتعرف بطلة الرواية «نتاشيا « بعد ذلك على الدكتور يورنس الذى اعتقدت في البداية بأنه وقع في غرامها وأحبها ولكن عنصر المفاجأة في الرواية، كلها يكمن في هذا الجزء الأخير منها حين يخبرها الدكتور يورنس بأنه مثلى الجنس، ولا يحبها ولا يريدها للزواج بل يرغب في تأجير رحمها فيحدث صراع داخل نتاشيا بين خوفها ،من تعلقها كأم بما ستنجبه وشعورها الديني بأنها سترتكب خطيئة حين توافق على ما عرضه عليها روبرتس وإلحاح أمها على قبول العرض ثم موافقتها عليه .

شخصية نتاشيا في الرواية هي نموذج، للمرأة المسحوقة التي سحقها واقع وتاريخ بلادها الشيوعية فهربت لائذة الى بلد موغل في الرأسمالية، فوجدت نفسها مجرد سلعة تبيع رحمها لرجل رأت فيه لأول مرة صورة للدكتور المثقف الإنساني، فحلمت بأن يدرك جمال روحها ويشعر بما عانته من ألم وخوف وفقدان فى بلادها ،ولكنه كشف عن وجهه الحقيقي البشع الذى تمظهر في كونه مجرد شخصية برغماتية ،ليس لديه أي مكان للعاطفة أو الأحاسيس وإنما يراها مجرد صفقة للحصول على حلم الأبوة، وكل المسألة بيع وشراء فقط ليولد أطفال بدون أم سيبحثون عندما يكبرون عن أمهاتهم البيولوجيات في عالم تغولت فيه الرأسمالية وحولت فيه البشر إلى سلع للبيع والشراء وتأجير أرحام النساء من أجل الهروب من الفقر والحصول على المال .

الطرح السردى في رواية نجوى بن شتوان « روما تيرمينى « يتمحور حول مواضيع لاتطرحها عادة الرواية العربية ،وهو طرح جرئ دخل لعمق قضايا المجتمع الغربى الذى نجحت الكاتبة في تعريته عبر روايتها وأظهرت نفعيته وبرغمايته في التعامل الإنسانى ،الذى يعلى من قيمة المال على حساب المشاعر والأحاسيس، ويدمر معنى الزواج والأسرة كقيمة إنسانية ويحولها إلى مؤسسة مشوهة يولد فيها أطفال مهجنين إنسانيا بدون ملامح ولاهوية حقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى