رأي

“ربّاية الدايح”

 

مفتاح العماري

بنغازي، مدينة تطل على البحر، لها منارة وقباب ملح، وشيوخ يرفدون سقف التاريخ بأعمدة الحكمة، وفتيان حالمون يعشقون بنات مدينتهم، ويدبجون رسائل العشق، ويفرغون احزانهم في مواويل المرزكاوي. بنغازي مدينة يتعذر نسيانها؛ هذا ما يساق خلال رحلة طويلة قطعتها الحكايات المشبعة بمجاز الشعراء، عبر ثلاثة آلاف عام، تبدأ من نبع الليثي. كذلك زهرة اللوتس التي أكد حكماء الماضي بأنها كانت هنا. فضلا عن كنوز شتى تكفل المؤرخون بتذويبها كعصارة لمتون مخبوءة، لم تكتمل قراءتها بعد؛ فلا زال فن الترميم يضع حرفا إزاء حرف، سعيا لاكتشاف الكلمة الضائعة، التي أكثر من مجرد شجرة في متاهة رملية. يقال: من فرط فاكهة أسرارها انتشرت أخبار نعمها وظلالها في الآفاق البعيدة؛ فقصدها التائهون من كل حدب وصوب.

ولكن ماذا بعد.؟ هل يمكن القول أن بنغازي بالرغم من مظاهر فقرها في ذلك الزمن الغابر؛ الا انها كانت تتمتع بطمأنينة باذخة. ليس لأن الحكم عادل، والطبيعة سخية و( الزرع صابة). بل لأنها _ أي المدينة _ كانت بعد مكابدة شرسة مع الحروب الطويلة التي خاضتها من أجل صد جحافل الغزاة، فضلا عن تلك المحطات الضاجة بالقحط والفوضى، تحاول انصاف نفسها بقليل من الهدوء، ولا ترغب في اثارة أيما شغب بما في ذلك ما يبدر عن ابنائها من شطط الحالمين. لهذا يمكننا القول أيضا؛ بأنها ستربيك فيما لو كنت لا تجيد شيئا غير الثرثرة، والتسكع، ومطاردة الكلمات؛ بغية استدراج حكاية فاتنة إلى غرفتك. وبذا ستذهب بك الظنون السيئة؛ بأن هذه المدينة الوحيدة في العالم التي تربى وجدانك في حضنها الدافيء.. قد بدأت تقف عائقا ضد طموحك وشغفك. هذا الشعور المؤلم الذي يوسوس لك، بأن خيالك أمسى مهددا؛ سينمو مع الأيام في داخلك الى أن يتحول الى فزاعة، ثم الى ورم عضال لا ينفك عن تصديعك وتكسير أفكارك الهشة؛ التي لا محالة سيجبرك حطامها على الفرار الى المجهول، لتغرب بعيدا عن أشباح بنغازي وليلها الضاج بالخوف والكلاب والقطط الضالة، عن نفاياتها وسجونها ومستنقعاتها، وترهات عجائزها وحكاياتها الخائبة، ومآتمها التي لا تكف عن الدوران. ومع ذلك سوف لن تمضي في غربتك طويلا  حتى تجد نفسك وقد عدت الى بنغازي في يوم ما؛ بعد أن هدك الحنين من كثر السكر والطواف والتعب. بيد أنه لكل شيء حد ومآل، لهذا لن يلبث مكثك بضعة شهور حتى يكتنفك السأم مرة أخرى. لأنه بمجرد أن تنطفئ داخل كهفك جذوة النوستالجيا، ستجد نفسك من جديد فريسة للترهات ذاتها التي كانت تقض مضجعك. وهكذا ستتألم هذه المرة أكثر من ذي قبل؛ لتعاود الكرة، وتهرب ثانية دونما أن تترك خلفك أثرا يدل على فرارك المفاجئ، ولأن كل من تعرفهم في بنغازي، بما في ذلك غرفتك نفسها التي تعودت هجرانك، يدركون جيدا بأنك مهما تألمت، ونأيت إلى أقصى حد يتخيله شخص معذب ومزدرى ومذل؛ قرر أن يهج مغتربا دونما رجعة؛ فحتما ستعود، وللمرة الأخيرة!. وكما هو متوقع، ستعود في صندوق مبجل، يحيطه الأسى والفراغ. لأن كلماتك هي الأخرى مهما ظلت بعيدة وصامتة ومحزونة، لديها ما تقوله لنا، نحن أبناء الملح الذين ثابرنا على انتظارك حيثما كان باعة كتب وصحف، وحيثما وجدت أحلام خصبة، ومكاتب بريد ومحطات سفر . وحيثما كنت؛ كنا على يقين بأن السر يكمن دائما في تلك الجاذبية والطاقة التي تملكها كلماتك، تلك التي تحتفظ بمآثر ثمينة، ذات مخزون وافر من الإستعارات التي لن يفهمها أحد من سكان الضفة الأخرى. فقط كنا دائما في انتظارك، ومهما حاولت أن تنأى، تضاعف عزمنا على الإحتفاظ بذاكرتك كما لو أنها كنز لا يفنى. هكذا لن تكون غائبا بيننا.

‎لعل هذه الحكاية وما يحذو حذوها من مجازات ثرية بالمعاني، تومئ، أو هي تشير دونما تحفظ الى فارس بعينه، أو أكثر من مريد؛ وقفاء أثر. جلهم كابد المصائر نفسها، حتى تحولوا هم أنفسهم إلى أسماء جهات وعناوين رحيل ، إلى جبال يمكن الإستدلال بها، إبان السفر من كتاب الى كتاب، واقتفاء آثارها عبر المدن والبلدان العظيمة التي كانت  في يوم ما، مسرحا لهذه الحكاية أو تلك.

‎   لهذا كانت بنغازي منذ القدم؛ صانعة أحلام وحكايات ومصائر. أزعم أنا “مفتاح العماري” بأنني قبل نصف قرن، وتحديدا في شارع سيدي عبد الجليل، كنت قد بدأت في تأثيث حكاية ما، تخصني وحدي. حكاية أخرى من حكايات الملح، لم تنته بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى