اجتماعي

رحلة علاج سالم !!

بقلم: مش ساكت

عندما‭ ‬يتحول‭ ‬الطب‭ .. ‬إلى‭ ‬ورقة‭ ‬منسية

لم‭ ‬يكن‭ ‬مرعي‭ ‬يحلم‭ ‬برؤية‭ ‬البحر،‭ ‬ولا‭ ‬بركوب‭ ‬الطائرات،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬بتذوق‭ ‬قهوة‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬أوروبية،‭ ‬كل‭ ‬أحلامه‭ ‬كانت‭ ‬تختصر‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬واحد‭: ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬ابنه‭ ‬الصغير‭ ‬سالم‭ ‬واقفًا‭ ‬على‭ ‬قدميه‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

لكن‭.. ‬سالم‭ ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬من‭ ‬اغتيال‭ ‬أحلامه‭ ‬الصغيرة‭.‬

قال‭ ‬الأطباء‭: ‬‮«‬العلاج‭ ‬موجود‮…‬‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الخارج‮»‬‭.‬

ابتسم‭ ‬مرعي‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬الحمد‭ ‬لله‮…‬‭ ‬إذن‭ ‬هناك‭ ‬أمل‮»‬‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬يحتاج‭ ‬أن‭ ‬يملأ‭ ‬استمارات،‭ ‬ويقف‭ ‬في‭ ‬طوابير،‭ ‬ويبيت‭ ‬في‭ ‬الممرات،‭ ‬ويشيخ‭ ‬وهو‭ ‬ينتظر،‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬من‭ ‬المرض،‭ ‬مات‭ ‬من‭ ‬طول‭ ‬الانتظار‭.‬

كانت‭ ‬المحطة‭ ‬الأولى‭: ‬مكتب‭ ‬العلاج‭ ‬بالخارج‭.‬

جلس‭ ‬مرعي‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬مهترئ،‭ ‬يراقب‭ ‬الملفات‭ ‬وهي‭ ‬تتنقل‭ ‬من‭ ‬مكتب‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ككرة‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬مباراة‭ ‬بلا‭ ‬حكم‭.‬

كلما‭ ‬دخل‭ ‬على‭ ‬الموظف،‭ ‬قيل‭ ‬له‭ ‬ببرود‭:‬

‮«‬ملفك‭ ‬تحت‭ ‬الإجراء‮»‬‭.‬

وتحوّلتْ‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬الإجراء‮»‬‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬مرعي‭ ‬إلى‭ ‬قارة‭ ‬مجهولة‭ ‬لم‭ ‬يكتشفها‭ ‬أحد،‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬يتطلب‭ ‬تأشيرة‭ ‬وواسطة‭ ‬ومعجزة‭.‬

الأسبوع‭ ‬الأول‮…‬‭ ‬اللجنة‭ ‬لم‭ ‬تجتمع‭.‬

الأسبوع‭ ‬الثاني‮…‬‭ ‬الميزانية‭ ‬لم‭ ‬تُعتمد‭.‬

الأسبوع‭ ‬الثالث‮…‬‭ ‬الأوراق‭ ‬ينقصها‭ ‬ختم‭.‬

وفي‭ ‬الأسبوع‭ ‬الرابع‮…‬‭ ‬رأى‭ ‬ملف‭ ‬‮«‬زيد‮»‬‭ ‬و»عبيد‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬خرج‭ ‬بتذاكر‭ ‬سفر‭ ‬وفنادق‭ ‬وعلاج‭ ‬مدفوع‭ ‬بالكامل،‭ ‬بينما‭ ‬سالم‮…‬‭ ‬يتألم‭ ‬على‭ ‬سريره‭.‬

أخذ‭ ‬مرعي‭ ‬يسمع‭ ‬حكايات‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭:‬

ملف‭ ‬استُخدم‭ ‬لرحلة‭ ‬مسؤول‭ ‬إلى‭ ‬جزر‭ ‬‮«‬المالديف‮»‬،‭ ‬وآخر‭ ‬اشتروا‭ ‬به‭ ‬ساعة‭ ‬لابن‭ ‬مسؤول،‭ ‬في‭ ‬معصمها‭ ‬ألماس‭ ‬يكفي‭ ‬لتمويل‭ ‬جناح‭ ‬كامل‭ ‬لمرضى‭ ‬الأورام‭.‬

وقف‭ ‬مرعي‭ ‬أمام‭ ‬الموظف‭ ‬وقال‭:‬

‮«‬يا‭ ‬سيدي،‭ ‬هذه‭ ‬حياة‭ ‬طفل‮…‬‭ ‬ليست‭ ‬رحلة‭ ‬شهر‭ ‬عسل‭!‬‮»‬

ابتسم‭ ‬الموظف‭ ‬ابتسامة‭ ‬باهتة‭ ‬وقال‭:‬

‮«‬الإجراءات‭ ‬واضحة‮…‬‭ ‬لكنك‭ ‬تحتاج‭ ‬موافقة‭ ‬خاصة‮»‬‭.‬

والموافقة‭ ‬الخاصة‮…‬‭ ‬كلمة‭ ‬سر‭ ‬لا‭ ‬تكتب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬قانون،‭ ‬لكنها‭ ‬محفورة‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬كل‭ ‬مواطن‭: ‬واسطة،‭ ‬نفوذ،‭ ‬أو‭ ‬صلة‭ ‬دم‭ ‬بالمتنفذين‭.‬

عاد‭ ‬مرعي‭ ‬إلى‭ ‬بيته،‭ ‬جلس‭ ‬قرب‭ ‬سالم‭ ‬وهو‭ ‬نائم،‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يخفي‭ ‬دموعه،‭ ‬وهمس‭:‬

‮«‬الحق‮…‬‭ ‬صار‭ ‬مثل‭ ‬الهواء‭ ‬النقي،‭ ‬نسمع‭ ‬عنه‭ ‬ولا‭ ‬نشمه،‭ ‬والباطل‭ ‬يركض‭ ‬أمامنا،‭ ‬يضحك،‭ ‬ويقول‭: ‬سأقهرك‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬آخر‭ ‬الليل،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬دفتره‭:‬

‮«‬في‭ ‬بلادي،‭ ‬لا‭ ‬يُعالج‭ ‬المريض‭ ‬بالدواء،‭ ‬بل‭ ‬بالمحسوبية‭. ‬والمواطن‭ ‬البسيط‮…‬‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يصبر،‭ ‬أو‭ ‬يكتب‭ ‬وصيته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُكتب‭ ‬اسمه‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬قائمة‭ ‬علاج‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬رسم‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬صغيرة،‭ ‬وكتب‭ ‬تحتها‭:‬

‮«‬هذا‭ ‬أنا‭ ‬وملفي‮…‬‭ ‬كلما‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬المرمى،‭ ‬ركلونا‭ ‬إلى‭ ‬ملعب‭ ‬آخر،‭ ‬والنتيجة‭ ‬دائمًا‭: ‬صفر‭ ‬‭ ‬صفر‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى