
فاطمة سالم
منذ أيام غادرتنا الممثلة «حميدة الخوجة» إحدى رائدات التمثيل في ليبيا سنتحدث عنها بكل أسى وحزن.
حتى وهي على سرير المرض، كانتْ تحمل ليبيا بين جنبات قلبها الذي يتدفق حبًا لوطنها، وتغزل من الدعاء نسيجًا قويًا لها بين تنهدات الألم، لم يكنْ المرضُ أقوى من حبها لوطنها، ولا كانت لحظات الضعف كافية لتُنسيها رسالتها الإنسانية والفنية.
كانتْ مثالاً للفنانة المخلصة، التي لم تبحث يومًا عن الشهرة، أو المجد، بل عن أثر طيب يبقى بعد الرحيل …
رحلتْ جسداً، وبقتْ روحاً، وصوتاً وذكرى في قلوب كل من لمسهم دفء إحساسها، وكل من سمع دعاءها الخالص لهذا الوطن الجريح ….
عن عمرٍ ناهز)83( عامًا، وهي من الرائدات البارزات في مسيرة الفن الليبي بعد رحلة إبداعية امتدتْ لعقود وضعتْ خلالها بصمتها في ذاكرة المسرح والإذاعة والتلفزيون …
شكلتْ الخوجةُ، التي توصف بأنها رائدة الفن الليبي، وعلامة فارقة في المشهد الفني؛ حيث عرفتْ بتنوع أدوارها وصدق أدائها، ونجحتْ في أن تكون صوتًا وصورةً لصوت المرأة الليبية في الدراما المحلية، من خلال أعمال الفنية لامستْ وجدان المشاهد الكريم وطوال هذه الفترة الزمنية كانت تعد كجزء من الهوية الدرامية للبلد …
وتألقت الراحلة حميدة في عدد من الأعمال الدرامية، من بينها مسلسل “الهاربة” الذي اشتهرت به حيث جسّدت دور الأم المناضلة المكافحة من اجل ابنها إلى جانب مشاركتها في مسلسل “الكنّة” عام 1998 إضافة إلى رصيدها السينمائي المتميز من خلال فيلم “الطريق” عام 1972، وفيلم “تاقرفت” الذي شكّل حضورًا عربيًا لافتا في مهرجان كان السينمائي بفرنسا عام 1977…
حميدة الخوجة بعد مسيرة فنية تجاوزت نصف قرن ….
انطلقتْ رحلتها الفنية في أواخر خمسينيات القرن الماضي، في فترة كان فيها حضور المرأة في المجال الفني نادرًا إلا أنها استطاعتْ بشغفها أن تثبت وجودها، ومهاراتها، وتصبح ضمن كوكبة الرائدات في التمثيل الليبي، وسرعان ما أصبحت وجهًا فنيًا مألوفًا، وصوتًا مؤثرًا في أعمال سجلتْ فيها حضورًا بارزًا على خشبة المسرح أمام الجمهور.
كما لا ننسى حضورها خلف الكاميرا، وتقديم الأدوار الفنية التي رسمتْ بها شخصية طيبة مازلت عالقة في أذهان المشاهدين، وذلك عند تجسيدها دور المرأة الحنونة، والأم المجاهدة خلال دورها في مسلسل )الهاربة( المأخوذ عن رواية )بائعة الخبز( قاسمها البطولة فيه الممثل الأستاذ عياد الزليطني، هذا الدور شكّل محطةً فارقة في مسيرتها الفنية، وأكسبها شهرة واسعة في التلفزيون .. كذلك مسلسل )منزل للبيع( مع المرحوم أحمد الغزيوي، واتقانها لدور الأم صحبة كوكبة من ألمع الممثلين، ورغم التحديات التي واجهتها، واصلتْ الخوجة عطاءها الفني حتى السنوات الأخيرة.
تكريم مستحق
تم تكريم فقيدة الفن الليبي في مهرجان الأفلام القصيرة بطرابلس عام 2024، تقديرًا لما قدمته من إبداع، وإسهام في إثراء الثقافة والفن الليبي، وكذلك كرمتْ من قبل أكاديمية الدراسات العليا، ومدرسة الإعلام والفنون، وقد كنتُ حاضرة معها حيث سجلتُ لها كلمة احبتْ أن توجه نصيحة لكل الفنانين الشباب الذين لا يزالون في خطواتهم الأولى نحو عالم الفن والتمثيل؛ حيث قالتْ:
لهم ابتعدوا عن الغرور، والأنانية، واجعلوا هدفكم الأول في تحقيق الفن الراقي اختيار المضمون الجيد، ولا تسعوا إلى الشهرة دون السعي للبحث عن الأداء القيم، والرفيع ولا بد أن تكون بينكم الآلفة، ومحبة لتحققوا ما تصبون إليه من نجاح.
هكذا هي الفنانة حميدة الخوجة بروحها الهادئة، وذلك التواضع اللا متناهي في الأسلوب والترحيب بنا .
يظل الفنان الليبي بكل المقاييس نبراسًا للعطاء اللامحدود وليس منا من لا يخطئ المهم أن يصحّح ذلك الخطأ بالأفضل والجيد.
كانت وقفتنا مع فنانة حاولتْ بكل ما لديها من إبداع أن تكون من بين الاسماء في مجال الفن، وستظل من الرواد الذين سجلوا اسماءهم بذلك العطاء المميز في ظروف كان فيها الفنان من الصعب أن يقف ويظهر للتمثيل في جو فيه راحة نفسية، أو مكانات يصعب على أي فنان خوض غمار تجربة التمثيل بهذه المعدات البسيطة …
وفي هذه الأيام أطلق رئاسة «المونديال المغاربي» التي اعلن عن تسمية جائزة أفضل ممثلة باسم الراحلة حميدة الخوجة تقديرًا لإنجازاتها الفنية الرائدة ومسيرتها الحافلة بالإبداع والعطاء في مجال السينما والدراما….
وكذلك تم تسميت مهرجان مزدة الدولي للأفلام القصيرة دورة المرحومة حميدة الخوجة …
وتركتْ«أيقونة الفن» إرثًا فنيًا خالدًا يلهم الأجيال الجديدة، وستظل ذكراها نبراسا لكل فنان يسعى إلى الإتقان والتميز.
وبرحيل فنانة الشعب «حميدة الخوجة» يسدل ستار الفن الليبي صفحة من صفحاته رائدة وتبقى أعمالها شاهدة على إرث فني وإنساني سيظل حاضرًا في ذاكرة الأجيال.
لا يسعنا إلا أن نقول ما يرضي الله )إنا لله وإنا اليه رجعوان( .