رأي

صمت معشب

صالح قادربوه

جدارية

يتحلق الجمهور حول نار التعبئة، حيث يقف الخطيب المفوه وهو يقذف الكلمات الحماسية في الأذان والصدور، بينما يتفاعل معه الملتفون عليه انتظاراً لأمر الانطلاق نحو أي اتجاه، مدفوعين بحمى الحماسة وتيار الدفع الجارف. فينطلقون كالرصاصات من البندقية، أو القذائف من فوهات المدافع للهدم الكبير، معبئين بحلم البناء الأكبر، فلا يقف حلم أيديولوجي إلا على أنقاض حلم أيديولوجي آخر. وتتوالى الأطوار لكن يظل النجم هو الخطيب التعبوي الذي يرغي ويزبد، متجهاً بأوامر خطابه إلى الغريزي والبدائي، الذي رغم كل شيء، وفي المنعطفات التاريخية يعلو فوق التفكير والتروي والتأمل والنقاش والتحليل؛ فيفوز ولو للحظة راهنة، مدمراً كل شيء.

كان بعض المؤثرين صموتين، يتمسكون بأثر الهدوء الناضج والعقل المتهمل، والوجدان الذي يتسرب منه الماء قطرة تلو قطرة لإحداث الأثر في الصخرة الصماء، صمت ليست نقيضاً للكلام كما أنه ليس مقدساً، لكنه يثمر في نفوس ترى، ويغدق في ضمائر تعي، وأمثلة كثيرة يسردها لنا التاريخ، حيث كان قليلو الكلام منخفضو الصوت ثاقبو الرؤية هم من بإمكانهم إحداث التغيير الحقيقي، الذي ينقد ما هو قائم ليبني عبر النقد مشروعه الذي لا بد أن يكون واضح الآليات والغايات، وذا أثر يجعل من أجزاء البيد القاحلة مناطق معشبة ريانة بها أمل ونور.

لذا كان أكثر ما يؤثر في العالم هو الكتب، التي يختبيء الكلام بين دفتيها، ليحدث التقدم الجوهري من الفكرة إلى الإنجاز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى