ثقافة

لعنة أطفال النار

     في روايةأطفال النارللكاتب عبد الله الماي: يصعد العنوان وبامتياز بوصفه أفق انتظار ملتبس، بين حملة النار كإشارة لمريدي المعرفة، وبين من يذهبون حطبا، ويهبون للرماد حظوظه من التأويل والهيمنة على النهايات المحتملة للعدم. الرماد كمستقبل وإحالة للماضي، أي للنار نفسها. كأن اللعبة محض تدوير. ولعل افتراض هكذا وسم حار، سيكون له تأثيره منذ البدء في استدراج القراءة لتقبل الفضاء التراجيدي، ومصائر بطل الرواية؛ الفتى (مروان)؛ ليس باعتباره يتيما، أو مشردا، أو مجندا ضمن ميلشيات نظام الفوضى، بل سليل لعنة؛ طالما كل شيء هنا، سيبدو صنيعة شؤم، وصدف عمياء، وأقدار مكتوبة سلفا. 

     بعد هذه الإشارة الموجزة لوسم الغلاف، أقترح إلقاء نظرة سريعة على المفتتح باعتباره عتبة أولى للدخول في فضاءأطفال النار“. ولأننا منذ السطرين الأولين سندخل في حالة ريبية، تشي بقدر كبير من الأسى والتوجس والقلق والخوف. إزاء أمّ عليلة، تظهر لنا بوضوح من خلال وجهة نظر السارد، وبصيغة ضمير الغائب، لنعلم بأنها تكابد مرضا خطيرا، وتخشى في اللحظة نفسها من أن تغادر الدنيا تاركة طفليها القاصرين لصروف الدهر.” تنظر الأم إلى مروان الصغير وتتابعه باهتمام، وهو يلعب في لهوٍ إلى جوارها رفقة أخته (رجاء)، وان اختفى أحدهما وراء أي جسم في الغرفة أو خرج منها لا يطمئن لها قلب.” وهنا سنلاحظ دونما عناء، خلال ما تبقى من هذا المقطع، أن النصيب الأوفر من الانشغال والتوصيف سينصب تحديدا على الطفل مروان، دون شقيقته رجاء. وفي الأثناء لعلنا لن نجد مسوغا مرضيا في أن تستهل الرواية بالحديث عن الأم، من وجهة نظر الراوي العليم عوضا عن الطفل مروان بوصفه الشخصية المحورية التي تدور حولها أحداث الرواية حتى خاتمتها، خلافا للأم التي ستغادرنا بعد أقل من صفحتين على الأرجح، وفي زمن قصير جدا. أشير أيضا أن العالم هنا، ولاسيما في جزئه المتخيل سيُختزل إلى أبعد حدّ مكتفيًا في الغالب بإيجاز الوقائع، بصيغة خبرية واصفة دونما إبداء أدنى تسامح مع التفاصيل، لكي تتولى بدورها تجسير الحد الأدنى من المناطق المعزولة. كذلك لا يبدي الكاتب كثير انشغال لتهيئتنا إزاء لحظة التنقل من موضوع إلى آخر. هذه السمة سترافقنا منذ الصفحات الأولى؛ حيث لا نظفر بأي تمهيد للفصل بين الحزن والفرح. وعلى سبيل المثال سيكون القفز مفاجئا من خبر الموت إلى مراسم عرس، ثم العودة إلى ذكر فقدان الأم، وفي الآن نفسه، يتدخل السارد العليم لانتحال شخصية محلل نفساني، أو اجتماعي، مما يسبب إرباكا وعائقا لنمو وانسياب السياق الدرامي. وبالمثل التخلي عن عديد المناطق خالية؛ حتى أننا في كثير من الأحيان لا نجد مسوغا لوجود الكثير من الفراغات التي قد تخل في الغالب بتدفق السرد بطريقة سلسة وأكثر حرارة ونبضا. كما لو أنه (أي الكاتب)، يستأنس بآلية السيناريو السينمائي، مستعينا بحركة القطع، من دون أن يُعنى بالمحفزات البصرية، أو الذهنية التي تجعل من هكذا انتقال فجائي متقبلا. 

   لا شك في أن الفن الروائي قد برهن عبر العديد من التجارب على مدى قابليته للتجدد والتنوع، فضلا عن عدم اعترافه بأية معايير صارمة قد تحد من قدرته على اجتياز نفسه. لعل مثل هذه المفاهيم الحداثية قد تشكل استئناسا لغض الطرف عن بعض ما نظنه من مثالب خالطت عمارةأطفال النار“. كتجربة سردية، لا نرتاب أبدًا في طموحها الذي لا يعوزه الصدق، كما لا تشوبها أية شبهة في نزاهة مقصدها؛ بيد أنه (كما نعلم جميعا) للسرد الروائي شروطه التي تحدّد هويته، وتهبه خصائصه الجمالية، وأنه مهما حاول الاقتراب من السرد التاريخي سيكون لزاما عليه، أن يحتفظ لنفسه بتلك المسافة التي تحترم كونه عملا متخيلا. غير أن النسق الذي أعتمد في كتابةأطفال النار، قد راق له ممارسة السرد، بوصفه عالمًا متخيلا، بالتجاور مع السرد التاريخي، إذ حرص الكاتب على توثيق عديد الوقائع والأحداث التاريخية لتندرج في آن واحد، كخط موازي للمتخيل. ليأتي الواقع الحقيقي كما لو كان ضربا من الإضاءة لتسويغ تراجيديا سياقه الدرامي. إلى حد أنه أتى على الجزء الأكبر من حجم الرواية رغم قصرها، لتتحول في بعض الأحيان إلى مبحث نظري، في التاريخ الاجتماعي والسياسي والعسكري لليبيا المعاصرة. وأنا هنا إذ أعبّر عن ذائقتي الخاصة في تناول روايةأطفال الناركعمل مقروء، لا أسعى إلى تبخيس حقوق انتسابها إلى الحقل الروائي، بقدر انحيازي إلى حرية الكتابة السردية، فيما لو تخلصت من استبداد السارد العليم الذي لا يتورع عن تجريد شخصيات عالمه المتخيل من قدرتها على الحياة بطريقة أكثر عفوية، لو ترك لها إرادة الحركة والكلام دونما وصاية. ولعلها السلطة نفسها التي انتهجها الراوي العليمقبل ذلكفي روايتهالسماء الوسطى، كتجربة سردية أولى لعبد الله الماي، حيث لم تسلم هي الأخرى من تكريس هذا الصنف من مثالب الكتابة الروائية، لحظة أن يشتط السارد العليم لإخضاع فضائه الروائي المتخيل لسلطته المطلقة. 

*

    تعد روايةأطفال النارضمن الشكل الذي صاغ عالمها، أكثر قربا من الكتابة الروائية في نمطها الكلاسيكي. وهي بذلك ستحوزدونما ريبعلى إعجاب صنف من القراء؛ سيتعاطفون حتما مع مجريات أحداثها، وسيتابعون في شغف ودهشة كبيرين، سيرة تحولات بطلهامروان، وسيتأثرون بمأساة يتمه، ومكابدات طفولته المعذبة، وصباه المشرد؛ ولاسيما خلال انضمامه إلى صفوف المجندين كطفل محارب، وسيتعاطفون مع ولعه بالطرب والرقص والموسيقى، وأيضا مع أشد حركاته الدرامية جذبا، عندما قفز خارج إحدى القوارب المخصصة للهجرة (غير القانونية)، عبر البحر، مفضلا البقاء لمؤازرة شقيقته، عوض الاغتراب بعيدا عن وطن يتهدم. كذلك ستكون لحظة الخاتمة في بعدها التراجيدي أبلغ قسوة وتأثيرا إزاء فاجعة الموت المجاني، عندما يقصف الطيران المعادي مخزنا للذخيرة، كان بداخله ثمانية مجندين، من بينهم مروان الذي سيموت حرقا، حيث لن يبقى منه شيء غير جثة متفحمة. هكذا هي مصائر أطفال النار.

*

    وقبل الختام، يقتضي الإنصاف الإشادة بمستويات العمارة السردية لرواية لهذه الرواية، ولاسيما في بنائها اللغوي، الذي يتسم باعتناء واضح في صياغة جملته، وتحميلها في عديد المقاطع والتأملات، بدلالات فلسفية غاية في الكثافة والاختزال. كذلك لن نغفل هنا ميزة الوعي التاريخي في بعديه الاجتماعي والسياسي، وتلك الإحاطة الوافية بأكثر الحقب المفصلية في التاريخ الليبي، بدءا من الاحتلال الايطالي إلى مخاض أحداث 17 فبراير 2011، مرورا بتأسيس الدولة الحديثة: العهد الملكي، ثم انقلاب سبتمبر ونظامه الشمولي الذي استبد بالحكم طيلة اثنين وأربعين عاما. وهكذا غامر الكاتب: “عبد الله المايفي هذه الرواية، وبجهد متخيل، وتأثيث لغوي شديد الصرامة، لكشف الكثير من المسكوت عنه، كما لو أنه عبر سعيه الحثيث للقبض على مفاصل وقائع دامية، يحاول في الأثناء إيهامنا بأننا إزاء نص سيروي. حين يود إشعارنا بأن بطله شخصية واقعية لا غبار عليها، وبصورة خاصة عندما يُظهر من جهة ما، حرصا شديدا على تدوين الوقائع والأحداث مشفوعة بتواريخها وعناوينها. ومع ذلك فهو لا يكتفي بتجسيد حياة معذبة لطفل سيء الطالع، بقدر ما يؤرخ لجيل كامل من ورثة الرماد. ومن جهة أخرى، سيبدو كمن يستنجد بحدس التاريخ، لحظة صهره لخرافة ميتافيزيقية قديمة داخل وعاء السرد. خرافة تنذر باللعنة كقدر لا فكاك منه: لكي يخوض غمار هذا الوطن الجحيم، الذي تخضع مصائر قاطنيه للصدف الشيطانية وحدها. لأن الفتى مروان وهو يكابد اليتم وكل أصناف الفقد وغربة النفس؛ لربما كان يظن أن شغفه بالموسيقى سيكون طريقا للخلاص، ولم يفكر قط بأن مآله سيكون بسبب الفوضى والفساد الأخلاقي، ثم الحرب الأهلية؛ محض جثة متفحمة. ومع ذلك ستظل روح الموسيقى وحدها خارج ضراوة النار. لعل هذه الروح، قد تجلت من جهة أخرى كمأثرة لا تضاهى، لتكون بمثابة الإله الخفي، الذي حرضعبد الله المايعلى سبر خفايا وطن الشؤم المكرس للخراب. فكان عليه منذ البدء، اللجوء لاستخدام حيل المخيلة، ومآثر اللغة في أكثر تجلياتها انفتاحا على الحلم، لكي يتغلب هو نفسه، (بوصفه ساردا) في لحظة كتابةأطفال الناروشقيقاتها، على ضراوة واقع اجتماعي أكثر عنفا وتخلفا. لاسيما أن مغامرته السردية، وبالرغم من بعض عثراتها الفنية، قد انطوت على وثيقة أدبية وتاريخية بالغة التأثير، بوصفها عملا روائيا يؤرخ للمشاعر. 

(*)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى