
لم أجد مفراً من شغل هذه المساحة بما اختزنته ذاكرتي عن السادس والعشرين من يوليو الذي احتل مكانته بالتاريخ العربي في العام الثاني والخمسين من القرن الماضي عندما أذاع راديو القاهرة ذلك البيان غير المسبوق وفي صوت غير مألوف، تنازل الملك فاروق ملك مصر والسودان عن عرش مصر لولي عهده أحمد فؤاد الثاني ومغادرته مصر بحراً من الإسكندرية، فقد نجح الأهل في حينه في شحن البطارية السائلة والاستماع إلى ذلك النبأ عندما أعادته أكثر من إذاعة مسموعة وكان له وقعه لدى المعروفين بمتابعتهم ممن يشار إليهم بالصفوة ذات الحدب على من يليهم من الأجيال التي لم تتجاوز الصف الخامس ابتدائي، جرّاء تأخر فتح المدارس فيما عوَّضَهم «الكِتّاب» مبكراً فأنجزوا أكثر من سَلْكة فاتجهوا إلى مبادئ النحو ومعاقرة الكتاب الأدبي ومجلات الرسالة والمصور ممن كنت بينهم ولم أُحْرَم من أحسن الرعاية فأقرأ للجاحظ وكتابه «البيان والتبيين» ومجموعات الرسالة وما زخر به من عديد المقالات بداية من الأستاذ الزيات وأسماء أخرى كثيرة، هي قراءة ليست موجهة ولا متأنية دون شك، إلا أنها تدخل بين ما يمكن الرجوع إليه عند استدعاء المرحلة وما حملته من بعض مشاعر الإحباط لعديد الكبار الذين ساءهم فرض النظام الاتحادي أو ما كانوا يسمونه بالفدرالي وما دُشِّنَ به الاستقلال الذي أُعلِنَ في مختتم العام وتلته الانتخابات النيابية التي أُجريت بالقانون الذي حَرَمَ سكان الريف من التصويت المباشر وأبقاها للتسجيل المشكوك في أمانة من يقوم به وإن كانت المراجعة الواعية تدرك أن السلطة لا تحتاج للتزييف لما تملكه أولاً من الترغيب والترهيب وقبل ذلك توزيع الدوائر وإبرام الاتفاقات بين المقترعين، والمهم أن السادس والعشرين من يوليو قد فتح أفاقاً جديدة لمن يرون في مصر القدوة ومصدر التأثير وقبل ذلك الإشعاع إذ لم يستطع بعض المُلمّين ببواطن الأمور وما يُعرف عن أمين الجامعة العربية «عزام» من طموح لحكم ليبيا، والمهم أن يوليو كما سبق وقلنا احتل مكانه في الذاكرة عندما وعَت قبل مغادرة مسقط الرأس ما نشب في في مصر التي أطاحت بعرش فاروق من خلاف سريع بين القادة الجدد الذين كان عددهم إثنى عشر، وزعت «المصور» بأحد أعدادها صورتهم الجمعية وفوقها الآية الكريمة «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» فاستقال يومئذ محمد نجيب الذي ترأسهم وتردد أنه لم يكن منهم، وقيل أن خالد محي الدين خرج بسلاح الفرسان وأرجعه لنَحِلَّ لاحقاً بالمدينة وصار الحديث عن الأحزاب والدستور وعديد الشعارات ليبتعد اليوم تلو اليوم. صحيح أن الحديث عن الإصلاح الزراعي وصدور مطبوعة تحمل اسم الرسالة الجديدة زاد من توهج مصر، غير أن الصوت الذي أذاع تنازل فاروق وفهمنا أنه صوت السادات وقرأنا أنه أصدر كتاباً عنوانه «يا ولدي هذا عمّك جمال» غرس ما غرس من التوجس، ونتذكر اليوم السادس والعشرين من يوليو وفي كثير من الحذر من مجانية التخوين، فالسياسة دائماً فن الممكن، لقد رأينا الكثير بعد ذلك التاريخ وروينا ما روينا وشاركنا بما شاركنا، ويبقى السادس والعشرين من يوليو 52 أحد أيام مصر الخالدة ونظل في مقدمة من يدرك استحالة عدم مراعاة ما في مصر من الإيجابي والسلبي على السواء ولا سيما والحدود بهذا الطول.