طرابلس: رضا فحيل البوم
ربيعة حباس
ضحايا الحوادث المرورية يفوقون الحرب
توصل الأكاديمي الليبي، الدكتور مراد الزائدي، إلى فكرة بحث: «جغرافية رحلة العمل اليومية، دراسة تطبيقية على موظفي الجامعة المفتوحة بليبيا»، من واقع الازدحام المروري الذي «يعذبه» يومياً خلال انطلاقه من البيت إلى عمله في العاصمة.
عمل الزائدي في بحثه على قياس تأثير الازدحام المروري في رحلات العمل والدراسة، التي تتسم بأن لها طابعاً إجبارياً، كما يقول، وهي ذات تأثير كبير بحركة المرور، لأنها يومية ومنتظمة، تحصل في ساعات محددة، وتحكمها ظروف العمل، ما يخلق حالة من الذروة المرورية في بداية الدوام ونهايته، الأمر الذي جعله مصراً على كشف وتوثيق أثر الازدحام في الموظفين والطلبة، وتقديم الحلول للتقليل من آثاره السلبية من خلال دراسته المنشورة في يوليو/ تموز عام 2016، لكن «الوضع لم يتغير والأسباب ما زالت قائمة»، كما يؤكد لـ»العربي الجديد».
ويعيش في طرابلس الكبرى (تضم 13 بلدية) 3,426,000 نسمة من بين 6.6 ملايين نسمة (مواطنين ومقيمين)، أي نحو نصف الليبيين، وفق إحصاء عام 2018، وفي ظل التكدس السكاني الكبير، يفترض أن تكون شبكة طرق العاصمة هي الأفضل والأكبر على مستوى البلاد، لكنها تعيش حالة من الفوضى القاتلة التي يروح ضحيتها أعداد تفوق من سقطوا في «الحرب الأهلية» جراء محاولة اللواء المتقاعد خليفة حفتر السيطرة على طرابلس، إذ توفي 1761 ليبياً وليبية جراء الحوادث المرورية منذ مطلع 2020 وحتى 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حسب بيانات وزارة الداخلية الليبية، بينما في عام 2019، أحصت مديريات الأمن التابعة لحكومة الوفاق (تسلمت حكومة الدبيبة السلطة منها في مارس/ آذار الماضي) مقتل أكثر من 1400 شخص بسبب الحوادث المرورية منذ بداية العام وحتى سبتمبر/ أيلول. وفي عام 2018 سُجِّل 2500 وفاة، بحسب ذات المصادر، فيما بلغت حصيلة القتلى من المدنيين جراء العدوان على طرابلس، التي أعلنها الجيش الليبي، 238 شخصاً من فئات عمرية مختلفة خلال الفترة من إبريل/ نيسان 2019 وحتى إبريل 2020.
الافتقار إلى التخطيط العمراني
تُعَدّ طرابلس من أكثر العواصم ازدحاماً، إذ تجوب 3 ملايين مركبة شوارعها يومياً، بحسب إحصاء الإدارة العامة للمرور والتراخيص. ويسبّب العدد الهائل من السيارات معاناة متفاقمة، في ظل غياب التخطيط العمراني عن المدينة منذ 22 عاماً، التي تمتلئ بعشوائيات كثيرة وطرق ترابية، بين المناطق السكنية التي تتوسع بلا دراسة، في ظل غياب التخطيط عن المدن الليبية كافة، بحسب توضيح المهندس حسين سويدان، رئيس مصلحة الطرق والجسور في وزارة المواصلات، التي تتبع مجلس الوزراء.
وتفتقر المناطق السكنية العشوائية إلى الخدمات الحيوية الأساسية، كالطرق والمشافي والمصارف، ما زاد من الفوضى في العاصمة التي باتت بحاجة إلى إعادة تنظيم سريع لتخفيف الحمل عن مركز المدينة المتكدس بالسيارات والبشر، وفقاً للمهندس فيصل شنيبة، مدير المشروعات في بلدية طرابلس المركز.
بنية تحتية متهالكة
لم تشهد شبكة طرق مدينة طرابلس نمواً ملحوظاً خلال السنوات من عام 2010 وحتى 2015، لتقل كفاءتها أكثر بمرور السنوات، ويتفاقم الازدحام المروري بنحو أخطر، كذلك إن موقع المدينة على الطريق الدائري فاقم مشكلة الازدحام، بحسب دراسة «ظاهرة الازدحام المروري على شبكات الطرق في مدينة طرابلس وضواحيها»، المنشورة في العدد التاسع من مجلة الأستاذ العلمية خريف 2015، التي أعدّها مصطفى الفرجاني، عضو هيئة التدريس في كلية الآداب بجامعة الزاوية غرب العاصمة.
وخُطِّطَت الطرقات العامة الحالية منذ فترة طويلة تصل إلى ستين عاماً، ما يجعلها، بحسب العقيد عبد الناصر اللافي، رئيس قسم شؤون المرور والتراخيص في وزارة الداخلية، أحد أبرز أسباب الازدحام، إذ كانت معدة لاستيعاب عدد محدد من المركبات، وما نشاهده اليوم يفوق استيعابها، وباتت بحاجة إلى صيانة وتوسعة وإنشاء جسور وإصلاح ما تدمر بمرور الزمن وبفعل العوامل الجوية، لأن التصدعات تعرقل حركة السير وتسبب الازدحام، وتلحق أيضاً الضرر بالسيارات، وصيانة الطرق وإعادة تأهيلها مناطتان بمصلحة الطرق والجسور في وزارة المواصلات.
ويردّ سويدان على هذا القصور في معالجة أسباب الازدحام الرئيسية، موضحاً أن «ميزانية مصلحة الطرق والجسور في السنوات من 2014 إلى 2016 كانت صفراً، وعام 2017 كانت 4 ملايين دينار (897,518 دولاراً أميركياً)، ولم نتمكن حتى من إصلاح أبسط الأضرار، وعام 2018 كانت 40 مليون دينار (8,975,188 دولاراً) أُنفِقَت على صيانة الطرق والجسور التي تضررت وانهارت من الأمطار العنيفة، قائلاً لـ»العربي الجديد»: «بهذه الميزانيات الضعيفة أصبحنا نعمل في الحالات الطارئة فقط، وليس لتطوير الشبكة العامة وتنفيذ المتطلبات الدولية التي وضعتها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وما تنص عليه معاهدة استوكهولم (معاهدة دولية تهدف إلى القضاء على الملوثات العضوية، ومنها الغازات المنبعثة من السيارات والمصانع)». مضيفاً أن ليبيا فيها شبكة من الطرق بطول 34 ألف كيلومتر معبَّد، ومتعاقدة قديماً وحديثاً على تخطيط وتعبيد طرق زراعية ورئيسية وفرعية بمسافة 14 ألف كيلومتر، جُلُّها متوقفة نتيجة الوضع العام الذي تمرّ به الدولة الليبية، وإذا تحسنت الأوضاع وتوافرت الميزانيات المطلوبة، فستصبح ليبيا صاحبة شبكة طرق ضخمة بمسافة 48 ألف كيلومتر، وفق قوله.
وجعلت الحال السابقة البنية التحتية الليبية في المرتبة الـ 154 من بين 160 دولة في عام 2018، بحسب مؤشر أداء الخدمات اللوجستية الذي يصدره البنك الدولي (LPI)، بينما تمثل نسبة وفيات حوادث الطرق 5.12% من إجمالي الوفيات في البلاد، التي جاءت في المركز الـ 47 عالمياً في حوادث الطرق، بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2018، الذي أوضح أنه لا توجد بليبيا أموال مخصصة في الميزانية لوضع استراتيجيات لأمان الطرق. وعلى مقياس 10 درجات تحصلت ليبيا على درجتين فقط في مقياس تطبيق القانون في مجال الحد من السرعة الزائدة، ودرجة واحدة فقط في مقياس إلزام سائقي الدراجات العادية والنارية باستخدام الخوذات، ويشير التقرير أيضاً إلى عدم وجود معايير قياسية للمركبات.
وتتركز المراكز الخدمية ومقارّ الوزارات جميعها، بالإضافة إلى المصارف الكبيرة والمحاكم وسط العاصمة، مثل المصرف المركزي وأغلب المصارف التجارية، والمؤسسة الوطنية للنفط والوزارات والفنادق والشركات مثل شركات الاتصالات والبريد والخطوط الجوية والمطار، والمستشفيات ومجمع المحاكم، إلى جانب المحال التجارية الصغرى والكبرى الموجودة على طول شوارع العاصمة الرئيسية، بحسب شنيبة، الذي يعتبر هذا التركز من أسباب الازدحام، مشيراً إلى مقترح بتخصيص منطقة الفلاح الواقعة على بعد 5 كيلومترات عن مركز المدينة، لتكون مقراً لجميع الوزارات، واتخذت أولى الخطوات قبل خمس سنوات لتحويل المنطقة إلى مركز بديل، لكن العمل على المشروع توقف إلى اليوم لأسباب عديدة، منها الحرب الأهلية والانقسام السياسي.
المركبات الخاصة تفاقم المشكلة
تجول 3 ملايين مركبة شوارع العاصمة يومياً، من ضمنها سيارات آتية من المدن المجاورة، وفق العقيد اللافي، موضحاً أن اعتماد المواطنين الأساسي في تنقلاتهم يكون على سياراتهم الخاصة. وهو ما أكده الفرجاني في دراسته التي توصلت إلى أن الحركة تتركز بين طرابلس والمراكز العمرانية المجاورة لها، حيث تكثر حركة القادمين والمغادرين، وكذلك مزاولة الأعمال التجارية. ويُرجع العقيد اللافي الفوضى في مزاولة الأعمال التجارية إلى منح تراخيص مزاولة العمل عشوائياً، وهو ما خلق ظاهرة الباعة ممن يستولون على الطرقات العامة، فمنهم مَن ينشئ محلاً أو مقهى دون موافقة من إدارة المرور، وآخرون يعرضون مبيعاتهم على الأرصفة لساعات معدودة، ويختارون المكان الذي يرونه مناسباً لهم.
كذلك أسهمت السيارات العامة التابعة للدولة أو لشركات عامة وخاصة، بمختلف أنواعها وأحجامها، في تركّز حركة النقل على شبكة الطرق الرئيسية في السنوات الأخيرة، بحسب دراسة «ظاهرة الازدحام المروري على شبكات الطرق بمدينة طرابلس وضواحيها».
ويرجع السبب في اتجاه الليبيين إلى اقتناء مركبات خاصة، إلى غياب المواصلات العامة والمواقف المخصصة لها، إذ اختفى القطار الذي كان يربط بين مدنها عام 1965، كذلك كانت حافلات النقل العام متوافرة قبل نحو ثلاثة عقود في مختلف أنحاء طرابلس، وعقب ذلك ألغيت، وفتح المجال للقطاع الخاص لتوفير سيارات النقل الصغيرة «حافلات الإفيكو»، منذ بداية التسعينيات. وأُطلق في نهاية عام 2019 مشروع باص المدينة الجديد، وتقوم عليه شركة السهم الخاصة التي تعاقدت مع شركة «كينغ لونغ» الصينية لاستيراد 145 حافلة على مدى عامين، وأغلب مسارات هذه الحافلات هي للنقل السريع بين المدن، وفقاً لموقع الشركة الإلكتروني.
كذلك إن استيراد السيارات المستعملة ورخص ثمنها أسهما في إقبال الأفراد على تملك سياراتهم، عوضاً عن عدم التزام قرار المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني رقم (148) لعام 2019، الذي يقضي بأن «لا يزيد عمر سيارات الركوب والسيارات العائلية والنقل الخفيف على 10 سنوات من تاريخ تصنيعها»، وهذه اللامبالاة فتحت الباب لاستيراد أي مركبة، حتى دخلت السوق الليبي سيارات متهالكة لا تمضي سنة على استيرادها، حتى نجدها معطلة على الطرق العامة و الأرصفة، وتعرقل حركة السير، كما يوضح العقيد اللافي، الذي يؤكد حديثه محمد رطيل، رئيس قسم المناولة في ميناء الخمس، موضحاً أن الميناء يستقبل يومياً السيارات المستوردة من الخارج، رغم وجود قرار من وزارة الاقتصاد بمنع استيراد سيارات عمرها أكثر من عشر سنوات، عُمِّم على كل الجهات المعنية، إلّا أن التجاوز ما زال مستمراً في هذا الشأن من قبل الجهات التنفيذية الليبية.
ويؤكد الربان حسن الجويلي، مدير مصلحة الموانئ في مدينة البيضاء شمال شرقيّ ليبيا أن ثلاثة موانئ تستقبل بواخر أو حاويات خاصة باستيراد السيارات، هي ميناء بنغازي وميناء مصراتة وميناء الخمس، واستقبلت هذه الموانئ عام 2019 ما مجموعه 78000 سيارة.
نتائج الازدحام
تراوح سرعة حركة المرور في أوقات الذروة بطرابلس بين 4-5 كيلومترات في الساعة، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع كثير من الوقت والطاقة، ويؤثر الازدحام في الحالة النفسية التي تؤدي بدورها إلى انخفاض أداء الإنسان في العمل أو البيت نتيجة الإجهاد النفسي الذي يتعرض له على طول الطريق، بحسب دراسة الدكتور مراد الزائدي المنشورة في العدد الخامس من مجلة كلية التربية.
ويزيد التوتر الناجم عن الازدحام من وقوع الحوادث المرورية بين السائقين، بحسب دراسة الفرجاني، وبلغ عدد الحوادث المرورية 4131 حادثاً وقعت منذ يناير/ كانون الثاني وحتى نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2020، وعدد الإصابات البليغة 1743 مصاباً، والمتوسطة 1532 إصابة، بينما تضررت 6641 مركبة، قدرت وزارة الداخلية قيمتها بـ 280 مليون دينار ليبي (62 مليون دولار).
ويؤكد التقرير ذاته أنّ اعتماد المواطن على التنقل بالسيارات الخاصة سبَّب زيادة في الحوادث، وبالتالي في الإصابات والوفيات، في ظل غياب التزام قوانين المرور والتهور لدى كثير من سائقي السيارات الخاصة، والطرقات المتهالكة التي لم تعد تصلح للسير، وهو ما يزيد الحوادث، خصوصاً إذا اختفت الإشارات الضوئية، وامتلأت الطرقات بالحفر والمطبّات.
تكلفة كبيرة لتلوث الهواء
بلغ متوسط العدد التقديـري للوفيـات المبكـرة المنسـوبة إلـى تلـوث الهـواء الناتـج مـن الوقـود الأحفوري في ليبيا، 900 حالة في عام 2018، وفق ما جاء في تقرير «الهواء السام: الثمن الحقيقي للوقود الأحفوري»، الصادر عن منظمة السلام الأخضر (غرينبيس) الدولية، والذي قدّر متوسط الكلفة السنوية لتلوث الهواء في ليبيا بـ 470 مليون دولار. ولفهم الرقمين، أجرى معد التحقيق مقارنة ببيانات الجارة الجزائر التي يبلغ عدد سكانها 43 مليون نسمة، أي ما يمثل 7 أضعاف سكان ليبيا، ويتضح من التقرير أن العديد التقديري للوفيات المبكرة في الجزائر 3000 آلاف حالة، أي ما يزيد بقليل على ضعفي العدد في ليبيا، بينما كان متوسط التكلفة السنوية 840 مليون دولار، وهو ما يمثل تقريباً ضعف نظيره الليبي.
وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن تلوث الهواء المحيط يُعَدّ من أكثر المخاطر البيئية إضراراً بالصحة على مستوى العالم، حيث يسبّب ما يزيد على 3 ملايين وفاة مبكرة سنوياً، ويمكن أن تنجم عنه السكتات الدماغية وأمراض القلب وسرطان الرئة والأمراض التنفسية المزمنة والحادة على السواء، بما في ذلك الربو.
وجاءت ليبيا في صدارة الدول الأفريقية وفي المركز الثامن عالمياً من حيث تلوث الهواء، بحسب التقرير الصادر عن معهد Eco Experts، المختص بشؤون البيئة، في فبراير/ شباط 2017.
وبالرغم من أن قانون رقم (15) لسنة 2003 بشأن حماية البيئة وتحسينها نص في مادتيه السادسة عشرة والسابعة عشرة على ضرورة اجتياز المركبات الآلية الاختبارات الخاصة بالاحتراق الداخلي ونوعية الوقود التي تجريها جهات الاختصاص، إلا أنه لم يفرض على وزارة البيئة مراقبة التلوث في الهواء، الناتج من أسباب متنوعة، منها عوادم السيارات. لكن الناشط البيئي، أنس القايدي، رئيس الجمعية الليبية لحماية الحياة البرية، يقول إن «الجهة المختصة بقياس تلوث الهواء ومواجهته، هي وزارة البيئة التي تفتقر إلى الإمكانات المادية والبشرية للقيام بمهامها المحددة في قانون إنشائها، ولا وجود أصلاً لجهاز «الشرطة البيئية» المنصوص عليه في القانون، والذي تناط به مهام التفتيش البيئي».