الاولىالرئيسية

احتفاءً برمضان .. الذاكرة حاضرة .. فقط المدن تعيد ترتيب نفسها

فائزة العجيلي

تختلف‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬الرمضانية‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬الليبية،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالأكلات‭ ‬والأطباق‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬تحضيرها‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬طعم‭ ‬خاص،‭ ‬وأجواء‭ ‬روحانية،‭ ‬تضفي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬أجواء‭ ‬مميزة،‭ ‬بتنوع‭ ‬طرق‭ ‬الاحتفاء‭ ‬به،‭ ‬لما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬خاصة‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الشهور‭ ‬الأخرى‭ ‬‭ ‬سواء‭ ‬الأجواء‭ ‬الدينيةأو‭ ‬الإجتماعية‭.‬

في‭ ‬مدينة‭ ‬الزنتان‭ ‬فرصة‭ ‬لتعزيز‭ ‬الروابط‭ ‬الأسرية‭ ‬وإحياء‭ ‬العادات‭ ‬المتوارثة،‭ ‬حيث‭ ‬تسود‭ ‬أجواء‭ ‬البساطة‭ ‬والتكافل‭ ‬الاجتماعي‭.‬

حيث‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬الشيباني‭: ‬

في‭ ‬الماضي،‭ ‬كانت‭ ‬العائلات‭ ‬تستعد‭ ‬لرمضان‭ ‬قبل‭ ‬أشهر‭ ‬بتخزين‭ ‬الشعير،‭ ‬القمح،‭ ‬زيت‭ ‬الزيتون،‭ ‬والتمر‭. ‬وكانت‭ ‬النساء‭ ‬يطحنّ‭ ‬الشعير‭ ‬يدويًا‭ ‬في‭ ‬‮«‬الرحى‮»‬‭ ‬لإعداد‭ ‬الدقيق،‭ ‬اليوم‭ ‬تقتصر‭ ‬الاستعدادات‭ ‬على‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬قبل‭ ‬رمضان،‭ ‬حيث‭ ‬تُشترى‭ ‬الحاجيات‭ ‬من‭ ‬الأسواق،‭ ‬لكن‭ ‬يبقى‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المنتجات‭ ‬المحلية‭ ‬أمرًا‭ ‬شائعًا،‭ ‬التمور‭ ‬كانت‭ ‬تُجلب‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬الجنوب‭ ‬مثل‭ ‬‭: ‬زلة‭ ‬وغدامس،‭ ‬وتستغرق‭ ‬الرحلة‭ ‬شهرًا‭ ‬عبر‭ ‬القوافل،‭ ‬بينما‭ ‬اليوم‭ ‬تصل‭ ‬خلال‭ ‬ساعات‭ ‬بفضل‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬الحديثة‭.‬

اللحوم‭ ‬‭.. ‬تحظى‭ ‬بأهمية‭ ‬خاصة،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬كبار‭ ‬العائلة‭ ‬يجتمعون‭ ‬قبل‭ ‬رمضان‭ ‬لذبح‭ ‬الأضاحي،‭ ‬وتوزيع‭ ‬اللحم‭ ‬بطريقة‭ ‬‭)‬الكُدس‭(‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬إعداد‭ ‬‮«‬القديد‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬القريش‮»‬؛‭ ‬حيث‭ ‬يُجفف‭ ‬اللحم،‭ ‬ويُدهن‭ ‬بالصبيبي‭ ‬لحفظه،‭ ‬ويُخلط‭ ‬لاحقًا‭ ‬بالسمان‭ ‬ليؤكل‭ ‬مع‭ ‬العيش،‭ ‬أو‭ ‬العصيدة‭ ‬‭.‬‭. ‬الألبان‭ ‬كانت‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الماعز،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬مخض‭ ‬الحليب‭ ‬في‭ ‬“الشكوة”‭ ‬لاستخراج‭ ‬الزبدة‭ ‬والجبن‭.‬

وكانت‭ ‬النساء‭ ‬تُعدّ‭ ‬‮«‬عيش‭ ‬الصفاية‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬خليط‭ ‬الشعير‭ ‬مع‭ ‬زيت‭ ‬الزيتون،‭ ‬والليمون،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الكرموس‭ ‬اللاوي‮»‬‭ ‬‭)‬التين‭ ‬المجفف‭ ‬بزيت‭ ‬الزيتون‭(‬،‭ ‬و‮«‬تمر‭ ‬مرفوس‮»‬‭ ‬المخلوط‭ ‬بالحلبة،‭ ‬أو‭ ‬الدشيشة‭.‬

خبزة‭ ‬الفرن‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬الراسخة،‭ ‬حيث‭ ‬تبدأ‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬إعدادها‭ ‬قبل‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬التنور،‭ ‬مما‭ ‬يمنحها‭ ‬نكهة‭ ‬مميزة،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭ ‬مستمرة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

البقوشة،‭ ‬وهي‭ ‬أوانٍ‭ ‬طينية‭ ‬تُستخدم‭ ‬للطهو،‭ ‬تُجهَّز‭ ‬قبل‭ ‬رمضان‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬النساء‭ ‬المتقنات‭ ‬لهذه‭ ‬الحرفة،‭ ‬حيث‭ ‬تُستخدم‭ ‬لطهي‭ ‬الأكلات‭ ‬التقليدية‭.‬

مع‭ ‬أذان‭ ‬المغرب،‭ ‬يعود‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬لتناول‭ ‬التمر‭ ‬والحليب،‭ ‬تليهما‭ ‬أطباق‭ ‬مثل‭ ‬‭: )‬البازين،‭ ‬الكسكس،‭ ‬والمكرونة‭(‬‭. ‬ورغم‭ ‬ظهور‭ ‬أطباق‭ ‬حديثة‭ ‬مثل‭ ‬‭: )‬البوريك‭ ‬والفريكاسي‭(‬،‭ ‬تبقى‭ ‬الأكلات‭ ‬الشعبية‭ ‬حاضرة‭.‬

بعد‭ ‬الإفطار،‭ ‬تُقام‭ ‬صلاة‭ ‬التراويح‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬الصغيرة‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬التقليدي،‭ ‬ثم‭ ‬تبدأ‭ ‬التجمعات‭ ‬العائلية؛‭ ‬حيث‭ ‬يتزاور‭ ‬الأقارب‭ ‬يوميًا‭ ‬لتعزيز‭ ‬الروابط‭.‬

بعد‭ ‬التراويح،‭ ‬كانت‭ ‬النساء‭ ‬يقضين‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬نسج‭ ‬الصوف‭ ‬وتجهيز‭ ‬الحوالي‭ ‬والبطاطين‭ ‬‭)‬القليعة‭(‬،‭ ‬وهي‭ ‬حرفة‭ ‬مستمرة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬رغم‭ ‬توفر‭ ‬البدائل‭ ‬الحديثة‭.‬

وجبة‭ ‬السحور‭ ‬بسيطة،‭ ‬حيث‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬الخبز،‭ ‬الزيت،‭ ‬الحليب،‭ ‬التمر،‭ ‬وشربة‭ ‬الشعير‭. ‬كما‭ ‬يتناول‭ ‬البعض‭ ‬‮«‬عيش‭ ‬الصفاية‮»‬‭ ‬لضمان‭ ‬الطاقة‭ ‬أثناء‭ ‬الصيام‭.‬

من‭ ‬العادات‭ ‬المستمرة‭ ‬تدريب‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬الصيام‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬حيث‭ ‬يبدؤون‭ ‬بنصف‭ ‬يوم‭ ‬ثم‭ ‬يوم‭ ‬كامل،‭ ‬لترسيخ‭ ‬القيم‭ ‬الدينية‭ ‬لديهم‭.‬

رغم‭ ‬تطور‭ ‬الحياة،‭ ‬يبقى‭ ‬رمضان‭ ‬في‭ ‬الزنتان‭ ‬محطة‭ ‬سنوية‭ ‬لإحياء‭ ‬التراث،‭ ‬حيث‭ ‬تجتمع‭ ‬الأجيال‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬واحدة،‭ ‬مستمدةً‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬روح‭ ‬التكافل‭ ‬والبساطة؛‭ ‬فما‭ ‬أن‭ ‬يقترب‭ ‬هلال‭ ‬رمضان‭ ‬حتى‭ ‬تبدأ‭ ‬الزنتان‭ ‬في‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬ذاكرةٍ‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭.‬

تنبض‭ ‬المدينة‭ ‬بروحٍ‭ ‬قديمة،‭ ‬كأنها‭ ‬تعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬نفسها‭ ‬لتتسع‭ ‬لزمنٍ‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يسكن‭ ‬تفاصيلها‭ ‬رغم‭ ‬تبدّل‭ ‬الأيام‭. ‬هنا،‭ ‬رمضان‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬شهرٍ‭ ‬للصيام،‭ ‬بل‭ ‬موسمٌ‭ ‬يعود‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬أصله،‭ ‬حيث‭ ‬تتداخل‭ ‬الأيدي‭ ‬في‭ ‬العجن،‭ ‬وتتمازج‭ ‬الروائح‭ ‬في‭ ‬الأزقة،‭ ‬ويصبح‭ ‬المساء‭ ‬وعدًا‭ ‬بليالٍ‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الذكر،‭ ‬والسهر‭.‬

في‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى،‭ ‬ترتبك‭ ‬الأسواق‭ ‬تحت‭ ‬ثقل‭ ‬الأقدام،‭ ‬يعبر‭ ‬الناس‭ ‬بين‭ ‬الرفوف‭ ‬بخطواتٍ‭ ‬ثقيلة،‭ ‬وكأنهم‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬جزءٍ‭ ‬من‭ ‬ماضيهم‭ ‬في‭ ‬أكياس‭ ‬الدقيق،‭ ‬وأصناف‭ ‬التمور‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬قوافل‭ ‬تأتي‭ ‬بالتمر‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬بعد‭ ‬أسابيعٍ‭ ‬من‭ ‬السفر،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬‮«‬الرحى‮»‬‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬باحات‭ ‬البيوت،‭ ‬لكن‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬التعب‭ ‬القديم‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتسلل‭ ‬إلى‭ ‬عيون‭ ‬النساء‭ ‬حين‭ ‬يتفحصن‭ ‬الزيت،‭ ‬وإلى‭ ‬أصابع‭ ‬الرجال‭ ‬وهم‭ ‬يختبرون‭ ‬التمر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬يقرأون‭ ‬تاريخه‭ ‬في‭ ‬تجاعيد‭ ‬قشرته‭.‬

عند‭ ‬الغروب،‭ ‬تصبح‭ ‬المدينة‭ ‬كائنًا‭ ‬آخر،‭ ‬تفيض‭ ‬المآذن‭ ‬بصوتٍ‭ ‬يربط‭ ‬الأرض‭ ‬بالسماء،‭ ‬ويعلو‭ ‬فوق‭ ‬الأزقة‭ ‬همسٌ‭ ‬خافتٌ‭ ‬لا‭ ‬يكسره‭ ‬سوى‭ ‬وقع‭ ‬أقدام‭ ‬العائدين‭ ‬إلى‭ ‬البيوت‭. ‬هناك،‭ ‬خلف‭ ‬الأبواب‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬على‭ ‬غرفٍ‭ ‬يغمرها‭ ‬نور‭ ‬المصابيح،‭ ‬تجتمع‭ ‬العائلة‭ ‬حول‭ ‬المائدة،‭ ‬ليس‭ ‬جوعًا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬احتفاءً‭ ‬بتلك‭ ‬الطقوس‭ ‬التي‭ ‬قاومت‭ ‬الزمن‭. ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬التمر‭ ‬أول‭ ‬الواصلين‭ ‬إلى‭ ‬الفم،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬الحساء‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬الجسد‭ ‬كأنه‭ ‬يوقظ‭ ‬شيئًا‭ ‬خفيًا‭ ‬في‭ ‬العروق،‭ ‬فيما‭ ‬يجلس‭ ‬الجد‭ ‬في‭ ‬ركنه‭ ‬المعتاد،‭ ‬يمد‭ ‬يده‭ ‬إلى‭ ‬الخبزة‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬لتوّها‭ ‬من‭ ‬التنور،‭ ‬يتلمسها‭ ‬ببطء،‭ ‬كأنه‭ ‬يختبر‭ ‬حرارة‭ ‬أيامه‭ ‬القديمة‭.‬

بعد‭ ‬الإفطار،‭ ‬تفرغ‭ ‬البيوت‭ ‬من‭ ‬ساكنيها،‭ ‬ينسلون‭ ‬واحدًا‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬نحو‭ ‬المساجد،‭ ‬حيث‭ ‬تصطف‭ ‬الأرواح‭ ‬قبل‭ ‬الأجساد‭. ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬يركض‭ ‬الأطفال‭ ‬بين‭ ‬الأزقة،‭ ‬يختبرون‭ ‬المساء‭ ‬بأقدامٍ‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬التعب،‭ ‬فيما‭ ‬يجتمع‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬الساحات،‭ ‬يتجادلون‭ ‬حول‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الليالي‭ ‬خلقت‭ ‬للحوار‭ ‬وحده‭. ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬كانت‭ ‬“الخربقة”‭ ‬لعبة‭ ‬السهرة،‭ ‬واليوم،‭ ‬حلّت‭ ‬محلها‭ ‬مباريات‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬والبرامج‭ ‬الرمضانية،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬تغير‭ ‬حقًا،‭ ‬فما‭ ‬زالت‭ ‬المدينة‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تصنع‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬حكاية،‭ ‬وكيف‭ ‬تبقي‭ ‬أبوابها‭ ‬مفتوحة‭ ‬حتى‭ ‬الفجر‭.‬

وقبيل‭ ‬السحور،‭ ‬حين‭ ‬يهدأ‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬يعود‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬إلى‭ ‬صمته‭. ‬يجلس‭ ‬الأبناء‭ ‬حول‭ ‬صينية‭ ‬صغيرة،‭ ‬يقتسمون‭ ‬خبزًا‭ ‬وزيتًا‭ ‬وتمرًا،‭ ‬وكأنما‭ ‬يسندون‭ ‬به‭ ‬أرواحهم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يواجهوا‭ ‬يومًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الصيام‭. ‬في‭ ‬الزوايا،‭ ‬يتهيأ‭ ‬البعض‭ ‬للصلاة،‭ ‬يفتح‭ ‬المصحف‭ ‬الذي‭ ‬تقادم‭ ‬ورقه،‭ ‬يمرر‭ ‬أصابعه‭ ‬على‭ ‬السطور‭ ‬كأنما‭ ‬يقرأها‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬فيما‭ ‬تتسلل‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬أصواتٌ‭ ‬واهنة،‭ ‬تذكر‭ ‬النائمين‭ ‬بأن‭ ‬الليل‭ ‬لم‭ ‬ينتهِ‭ ‬بعد‭.‬

في‭ ‬الزنتان،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬الزمن‭ ‬العتيق،‭ ‬تغير‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلا‭ ‬جوهر‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭.‬

صار‭ ‬السحور‭ ‬يُعلن‭ ‬برسالة‭ ‬هاتفية،‭ ‬وصارت‭ ‬المائدة‭ ‬تُوثق‭ ‬بصورةٍ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُرفع‭ ‬عنها‭ ‬الطعام،‭ ‬وصارت‭ ‬الأسواق‭ ‬أسرع،‭ ‬والوجبات‭ ‬أغنى،‭ ‬لكن‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يُلغي‭ ‬تلك‭ ‬الرائحة‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬رمضان‭ ‬بأيام،‭ ‬ولا‭ ‬يطفئ‭ ‬ذلك‭ ‬الدفء‭ ‬الذي‭ ‬يملأ‭ ‬البيوت‭ ‬حين‭ ‬تجتمع‭ ‬الأيدي‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬واحدة‭.‬

رمضان،‭ ‬هنا،‭ ‬ليس‭ ‬حدثًا‭ ‬عابرًا،‭ ‬بل‭ ‬فصلٌ‭ ‬من‭ ‬حكاية‭ ‬طويلة،‭ ‬تُعاد‭ ‬كتابتها‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬بالكلمات‭ ‬نفسها،‭ ‬وإن‭ ‬تبدّلت‭ ‬الأقلام‭.‬

ومن‭ ‬المدن‭ ‬الليبية‭ ‬التي‭ ‬تتفرد‭ ‬بطابع‭ ‬خاص‭ ‬ومميز‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬مدينة‭ ‬‭)‬طرابلس‭(‬‭ .. ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬استقبال‭ ‬النَّاس‭ ‬لشهر‭ ‬الصيام‭.‬

أهالي‭ ‬مدينة‭ ‬طرابلس‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬توارثوا‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬تشمل‭ ‬‭)‬التراث‭ ‬ـ‭ ‬التسامح‭ ‬ـ‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ـ‭ ‬والشعائر‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬شعائر‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭(‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬ورثوها‭ ‬لأبنائهم‭ .. ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬بمرور‭ ‬الزمن‭ ‬وتوسع‭ ‬دائرة‭ ‬المدنية‭ ‬أوشكت‭ ‬هذه‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬السمحة‭ ‬والتي‭ ‬تميز‭ ‬المدن‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬بعض‭ ‬أن‭ ‬تندثر‭.‬

شهر‭ ‬الصيام‭ ‬يُعتمد‭ ‬في‭ ‬صومه‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الهلال‭ ‬من‭ ‬عدمه‭ .. ‬ورؤية‭ ‬الهلال‭ ‬لها‭ ‬طابع‭ ‬مميز‭ ..‬

ففي‭ ‬القديم‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يترقبون‭ ‬الهلال‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬يصعد‭ ‬أحدهم‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬جبل‭ ‬ليتمكن‭ ‬من‭ ‬الرؤية‭ .. ‬ويكون‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬قومه‭ ‬بالصدق‭ ..‬‭ ‬وعندما‭ ‬تتأكد‭ ‬رؤية‭ ‬الهلال‭ ‬يتم‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬قدوم‭ ‬أول‭ ‬أيام‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬توكل‭ ‬للمشايخ‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ .. ‬وبعدها‭ ‬تولى‭ ‬أمرها‭ ‬دائرة‭ ‬الأوقاف‭.‬

وأصبح‭ ‬الهلال‭ ‬الآن‭ ‬يقاس‭ ‬بعمليات‭ ‬حسابية‭ ‬فلكية‭ .. ‬تبين‭ ‬ولادته‭ ‬من‭ ‬عدمها‭ .. ‬ويتم‭ ‬شيوع‭ ‬رؤيته‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ .. ‬وبهذا‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬أيام‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك‭.‬

يهل‭ ‬رمضان‭ ‬وفي‭ ‬جعبته‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬لأنه‭ ‬شهر‭ ‬الله‭ ‬وفيه‭ ‬تكون‭ ‬طريقة‭ ‬إعداد‭ ‬الطعام‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬الأيام‭ .. ‬حيث‭ ‬يشتهي‭ ‬الصائم‭ ‬عديد‭ ‬الأصناف‭ .. ‬وعند‭ ‬دخول‭ ‬وقت‭ ‬المغرب‭ ‬يبدأ‭ ‬الجميع‭ ‬ينتظرون‭ ‬انطلاق‭ ‬مدفع‭ ‬الإفطار‭ ‬الذي‭ ‬يبين‭ ‬انتهاء‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬رمضان،‭ ‬ويشرع‭ ‬لنا‭ ‬بداية‭ ‬الفطر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭.‬

ومدفع‭ ‬الإفطار‭ ‬كان‭ ‬مميزًا؛‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬يسمعونه‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬جدران‭ ‬‮«‬السراي‭ ‬الحمراء‮»‬؛‭ ‬حيث‭ ‬ينطلق‭ ‬المدفع‭ ‬منبهاً‭ ‬أهالي‭ ‬المدينة‭ ‬بوجوب‭ ‬الفطر‭ ‬لدخول‭ ‬وقت‭ ‬المغرب‭.‬

ومع‭ ‬ازدياد‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭ ‬وتوسع‭ ‬دائرة‭ ‬المدنية‭ ‬أًصبحت‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭ ‬غير‭ ‬متوفرة،‭ ‬وغير‭ ‬موجودة‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ .. ‬وبذلك‭ ‬يعتمد‭ ‬النَّاس‭ ‬في‭ ‬فطرهم‭ ‬على‭ ‬التلفزيون،‭ ‬أو‭ ‬الراديو‭ ‬الذي‭ ‬يطلق‭ ‬فيه‭ ‬مدفع‭ ‬الإفطار‭ ‬ثم‭ ‬يليه‭ ‬أذان‭ ‬صلاة‭ ‬المغرب‭.‬

مائدة‭ ‬رمضان‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬موائد‭ ‬الأيام‭ ‬العادية

ومن‭ ‬أشهر‭ ‬ما‭ ‬يقدم‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬الإفطار‭ ‬نوعان‭ ‬من‭ ‬الموائد‭ .. ‬الأولى‭ ‬وفيها‭ ‬يكون‭ ‬التمر،‭ ‬واللبن،‭ ‬والحليب‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬العسلة،‭ ‬والزلابية،‭ ‬والشامية‭ ‬وبعض‭ ‬الحلويات‭ ‬الطرابلسية‭ ‬المعروفة‭ ‬وهذا‭ ‬يكون‭ ‬كتحلية‭ ‬قبل‭ ‬الصلاة‭ ‬المائدة‭ ‬الثانية‭ ‬هي‭ ‬مائدة‭ ‬الإفطار‭ ‬الرئيسة‭ ‬وتكون‭ ‬منوعة‭.‬

وتشمل‭ ‬عدة‭ ‬أصناف‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬ويكون‭ ‬الطبق‭ ‬الرئيس‭ ‬فيها‭ ‬هو‭ ‬الشوربة‭ .. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أصناف‭ ‬أخرى‭ ‬تختص‭ ‬بها‭ ‬مدينة‭ ‬طرابلس‭ ‬مثل‭ ‬‭:‬

‮«‬البوريك‭ ‬والمبطن‭ ‬والكفتة‭ ‬والضولمة‮»‬؛‭ ‬حيث‮ ‬‭ ‬تلتم‭ ‬العائلة‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬واحدة‭ ‬ويعيشون‭ ‬أجواء‭ ‬رمضانية‭ ‬مرحة‭ .. ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬أطباق‭ ‬المهلبية‭ ‬والخشاف‭.‬

موائد‭ ‬الرحمن‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الموائد‭ ‬التي‭ ‬يقدمها‭ ‬أهالي‭ ‬طرابلس‭ ‬للغريب،‭ ‬وعابر‭ ‬السبيل‭ .. ‬وهذه‭ ‬ميزة‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬أهالي‭ ‬ليبيا‭.‬

تقدم‭ ‬هذه‭ ‬الموائد‭ ‬لمن‭ ‬يستحق‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬سواء‭ ‬الداخلية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الساحلية‭.. ‬وكذلك‭ ‬يقوم‭ ‬الأهالي‭ ‬بتقديم‭ ‬الفطور‭ ‬لدوريات‭ ‬الشرطة‭ ‬والمرور‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يغادروا‭ ‬أماكن‭ ‬عملهم‭ .. ‬كذلك‭ ‬هناك‭ ‬موائد‭ ‬إفطار‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬حيث‭ ‬يقدم‭ ‬الحليب‭ ‬واللبن‭ ‬والشامية‭ ‬والحلويات‭ ‬والأكل‭ ‬الطرابلسي‭ ‬الشهي‭ .. ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬طمعًا‭ ‬في‭ ‬الأجر‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭.‬

أما‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬فإنه‭ ‬شارع‭ ‬حركي‭ ‬ممتلئ‭ ‬بالصخب‭ ‬والضجيج‭ ‬وفيه‭ ‬يزداد‭ ‬عدد‭ ‬السيارات‭ .. ‬وعدد‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يسيرون‭ ‬على‭ ‬أرجلهم‭ ‬لدرجة‭ ‬الربكة‭ ‬في‭ ‬السير‭ .. ‬وممكن‭ ‬وصفه‭ ‬بأنه‭ ‬شارع‭ ‬لا‭ ‬ينام‭ .. ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬المنتصف‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬الصيام‭ ‬حيث‭ ‬يبدأ‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬التجهيز‭ ‬لعيد‭ ‬الفطر‭ ‬المبارك

عمران‭ ‬عمار‭  ‬من‭ ‬مدينه‭ ‬صرمان‭ ‬‭:‬

‭ ‬مع‭ ‬حلول‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك،‭ ‬حيث‭ ‬يترقب‭ ‬الليبيون‭ ‬حلوله‭ ‬بفرح‭ ‬واشتياق،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬شهر‭ ‬للصيام،‭ ‬بل‭ ‬مناسبة‭ ‬تزخر‭ ‬بالرموز‭ ‬الدينية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭  ‬فمنذ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬تتغير‭ ‬العادات‭ ‬سريعًا،‭ ‬لتُفسح‭ ‬المجال‭ ‬لنمط‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬تمزج‭ ‬بين‭ ‬العبادة‭ ‬والسهر‭ ‬والتسوق،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بأطباق‭ ‬تقليدية‭ ‬موسمية‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬الإفطار‭ ‬الرمضانية‭ ‬يجتمع‭ ‬حولها‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬التوقيت‭ ‬نفسه،‭ ‬يفطرون‭ ‬معًا،‭ ‬يتبادلون‭ ‬الأحاديث‭ ‬ويتسامرون‭ ‬ثم‭ ‬يؤدون‭ ‬صلواتهم‭ ‬جماعة،‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬يعكس‭ ‬روح‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬الفضيل‭.‬

لكن‭ ‬رمضان‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬شهر‭ ‬الصيام‭ ‬والعبادة،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬موسم‭ ‬للعطاء‭ ‬والتكافل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬إذ‭ ‬يتسابق‭ ‬المحسنون‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬المساعدات‭ ‬للمحتاجين،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬توزيع‭ ‬السلال‭ ‬الغذائية‭ ‬لتخفيف‭ ‬الأعباء‭ ‬الرمضانية،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إقامة‭ ‬موائد‭ ‬الرحمن‭ ‬في‭ ‬نواصي‭ ‬الشوارع؛‭ ‬حيث‭ ‬تُنصب‭ ‬الخيام‭ ‬لاستقبال‭ ‬الغرباء‭ ‬وعابري‭ ‬السبيل،‭ ‬وتمتلئ‭ ‬بأشهى‭ ‬المأكولات،‭ ‬التي‭ ‬تجهز‭ ‬بجهود‭ ‬ربات‭ ‬البيوت‭ ‬الكريمات‭ ‬اللواتي‭ ‬يسخرن‭ ‬وقتهن‭ ‬وجهدهن‭ ‬إكرامًا‭ ‬لهذا‭ ‬الشهر‭ ‬الفضيل،‭ ‬إيمانًا‭ ‬بأن‭ ‬فرحة‭ ‬الصائم‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬موائد‭ ‬البيوت‭ ‬إلى‭ ‬موائد‭ ‬العطاء‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى