
تختلف العادات والتقاليد الرمضانية بين المدن الليبية، خاصة فيما يتعلق بالأكلات والأطباق التي يتم تحضيرها في أيام شهر رمضان، الذي له طعم خاص، وأجواء روحانية، تضفي على هذا الشهر أجواء مميزة، بتنوع طرق الاحتفاء به، لما له من عادات وتقاليد خاصة تختلف عن باقي الشهور الأخرى سواء الأجواء الدينيةأو الإجتماعية.
في مدينة الزنتان فرصة لتعزيز الروابط الأسرية وإحياء العادات المتوارثة، حيث تسود أجواء البساطة والتكافل الاجتماعي.
حيث يقول محمد الشيباني:
في الماضي، كانت العائلات تستعد لرمضان قبل أشهر بتخزين الشعير، القمح، زيت الزيتون، والتمر. وكانت النساء يطحنّ الشعير يدويًا في «الرحى» لإعداد الدقيق، اليوم تقتصر الاستعدادات على أيام قليلة قبل رمضان، حيث تُشترى الحاجيات من الأسواق، لكن يبقى الاعتماد على المنتجات المحلية أمرًا شائعًا، التمور كانت تُجلب من مدن الجنوب مثل : زلة وغدامس، وتستغرق الرحلة شهرًا عبر القوافل، بينما اليوم تصل خلال ساعات بفضل وسائل النقل الحديثة.
اللحوم .. تحظى بأهمية خاصة، إذ كان كبار العائلة يجتمعون قبل رمضان لذبح الأضاحي، وتوزيع اللحم بطريقة )الكُدس(، إضافة إلى إعداد «القديد»، أو «القريش»؛ حيث يُجفف اللحم، ويُدهن بالصبيبي لحفظه، ويُخلط لاحقًا بالسمان ليؤكل مع العيش، أو العصيدة .. الألبان كانت تأتي من الماعز، حيث يتم مخض الحليب في “الشكوة” لاستخراج الزبدة والجبن.
وكانت النساء تُعدّ «عيش الصفاية»، وهو خليط الشعير مع زيت الزيتون، والليمون، إضافة إلى «الكرموس اللاوي» )التين المجفف بزيت الزيتون(، و«تمر مرفوس» المخلوط بالحلبة، أو الدشيشة.
خبزة الفرن من التقاليد الراسخة، حيث تبدأ النساء في إعدادها قبل المغرب في التنور، مما يمنحها نكهة مميزة، ولا تزال هذه العادة مستمرة إلى اليوم.
البقوشة، وهي أوانٍ طينية تُستخدم للطهو، تُجهَّز قبل رمضان على يد النساء المتقنات لهذه الحرفة، حيث تُستخدم لطهي الأكلات التقليدية.
مع أذان المغرب، يعود الرجال من المسجد لتناول التمر والحليب، تليهما أطباق مثل : )البازين، الكسكس، والمكرونة(. ورغم ظهور أطباق حديثة مثل : )البوريك والفريكاسي(، تبقى الأكلات الشعبية حاضرة.
بعد الإفطار، تُقام صلاة التراويح في المساجد الصغيرة ذات الطابع التقليدي، ثم تبدأ التجمعات العائلية؛ حيث يتزاور الأقارب يوميًا لتعزيز الروابط.
بعد التراويح، كانت النساء يقضين الوقت في نسج الصوف وتجهيز الحوالي والبطاطين )القليعة(، وهي حرفة مستمرة حتى اليوم، رغم توفر البدائل الحديثة.
وجبة السحور بسيطة، حيث تتكون من الخبز، الزيت، الحليب، التمر، وشربة الشعير. كما يتناول البعض «عيش الصفاية» لضمان الطاقة أثناء الصيام.
من العادات المستمرة تدريب الأطفال على الصيام تدريجيًا، حيث يبدؤون بنصف يوم ثم يوم كامل، لترسيخ القيم الدينية لديهم.
رغم تطور الحياة، يبقى رمضان في الزنتان محطة سنوية لإحياء التراث، حيث تجتمع الأجيال على مائدة واحدة، مستمدةً من الماضي روح التكافل والبساطة؛ فما أن يقترب هلال رمضان حتى تبدأ الزنتان في الاستيقاظ على وقع ذاكرةٍ لا تغيب.
تنبض المدينة بروحٍ قديمة، كأنها تعيد ترتيب نفسها لتتسع لزمنٍ لا يزال يسكن تفاصيلها رغم تبدّل الأيام. هنا، رمضان ليس مجرد شهرٍ للصيام، بل موسمٌ يعود فيه كل شيء إلى أصله، حيث تتداخل الأيدي في العجن، وتتمازج الروائح في الأزقة، ويصبح المساء وعدًا بليالٍ طويلة من الذكر، والسهر.
في الأيام الأولى، ترتبك الأسواق تحت ثقل الأقدام، يعبر الناس بين الرفوف بخطواتٍ ثقيلة، وكأنهم يبحثون عن جزءٍ من ماضيهم في أكياس الدقيق، وأصناف التمور. لم تعد هناك قوافل تأتي بالتمر من الجنوب بعد أسابيعٍ من السفر، ولم تعد «الرحى» تدور في باحات البيوت، لكن شيئًا من ذلك التعب القديم لا يزال يتسلل إلى عيون النساء حين يتفحصن الزيت، وإلى أصابع الرجال وهم يختبرون التمر كما لو أنهم يقرأون تاريخه في تجاعيد قشرته.
عند الغروب، تصبح المدينة كائنًا آخر، تفيض المآذن بصوتٍ يربط الأرض بالسماء، ويعلو فوق الأزقة همسٌ خافتٌ لا يكسره سوى وقع أقدام العائدين إلى البيوت. هناك، خلف الأبواب التي تفتح على غرفٍ يغمرها نور المصابيح، تجتمع العائلة حول المائدة، ليس جوعًا فحسب، بل احتفاءً بتلك الطقوس التي قاومت الزمن. لا يزال التمر أول الواصلين إلى الفم، كما كان منذ قرون، ولا يزال الحساء يسري في الجسد كأنه يوقظ شيئًا خفيًا في العروق، فيما يجلس الجد في ركنه المعتاد، يمد يده إلى الخبزة التي خرجت لتوّها من التنور، يتلمسها ببطء، كأنه يختبر حرارة أيامه القديمة.
بعد الإفطار، تفرغ البيوت من ساكنيها، ينسلون واحدًا تلو الآخر نحو المساجد، حيث تصطف الأرواح قبل الأجساد. في الخارج، يركض الأطفال بين الأزقة، يختبرون المساء بأقدامٍ لا تعرف التعب، فيما يجتمع الرجال في الساحات، يتجادلون حول كل شيء، كما لو أن هذه الليالي خلقت للحوار وحده. في الماضي، كانت “الخربقة” لعبة السهرة، واليوم، حلّت محلها مباريات كرة القدم والبرامج الرمضانية، لكن لا شيء تغير حقًا، فما زالت المدينة تعرف كيف تصنع من الليل حكاية، وكيف تبقي أبوابها مفتوحة حتى الفجر.
وقبيل السحور، حين يهدأ كل شيء، يعود كل بيت إلى صمته. يجلس الأبناء حول صينية صغيرة، يقتسمون خبزًا وزيتًا وتمرًا، وكأنما يسندون به أرواحهم قبل أن يواجهوا يومًا آخر من الصيام. في الزوايا، يتهيأ البعض للصلاة، يفتح المصحف الذي تقادم ورقه، يمرر أصابعه على السطور كأنما يقرأها للمرة الأولى، فيما تتسلل من بعيد أصواتٌ واهنة، تذكر النائمين بأن الليل لم ينتهِ بعد.
في الزنتان، كما في غيرها من مدن الزمن العتيق، تغير كل شيء إلا جوهر هذا الشهر.
صار السحور يُعلن برسالة هاتفية، وصارت المائدة تُوثق بصورةٍ قبل أن يُرفع عنها الطعام، وصارت الأسواق أسرع، والوجبات أغنى، لكن شيئًا من ذلك لا يُلغي تلك الرائحة القديمة التي تسبق رمضان بأيام، ولا يطفئ ذلك الدفء الذي يملأ البيوت حين تجتمع الأيدي حول مائدة واحدة.
رمضان، هنا، ليس حدثًا عابرًا، بل فصلٌ من حكاية طويلة، تُعاد كتابتها كل عام بالكلمات نفسها، وإن تبدّلت الأقلام.
ومن المدن الليبية التي تتفرد بطابع خاص ومميز في شهر رمضان مدينة )طرابلس( .. وذلك من ناحية استقبال النَّاس لشهر الصيام.
أهالي مدينة طرابلس على مر العصور توارثوا عادات وتقاليد تشمل )التراث ـ التسامح ـ العلاقات الاجتماعية ـ والشعائر الدينية التي منها شعائر شهر رمضان(، وبالتالي ورثوها لأبنائهم .. إلا أنه بمرور الزمن وتوسع دائرة المدنية أوشكت هذه العادات والتقاليد السمحة والتي تميز المدن عن بعضها بعض أن تندثر.
شهر الصيام يُعتمد في صومه على رؤية الهلال من عدمه .. ورؤية الهلال لها طابع مميز ..
ففي القديم كان الناس يترقبون الهلال وذلك بأن يصعد أحدهم إلى أعلى جبل ليتمكن من الرؤية .. ويكون هذا الشخص معروف في قومه بالصدق .. وعندما تتأكد رؤية الهلال يتم الإعلان عن قدوم أول أيام شهر رمضان المبارك وكانت هذه المهمة غالباً ما توكل للمشايخ في المساجد .. وبعدها تولى أمرها دائرة الأوقاف.
وأصبح الهلال الآن يقاس بعمليات حسابية فلكية .. تبين ولادته من عدمها .. ويتم شيوع رؤيته عبر وسائل الإعلام .. وبهذا يكون أول أيام شهر رمضان المبارك.
يهل رمضان وفي جعبته الكثير من الخير لأنه شهر الله وفيه تكون طريقة إعداد الطعام مختلفة عن سائر الأيام .. حيث يشتهي الصائم عديد الأصناف .. وعند دخول وقت المغرب يبدأ الجميع ينتظرون انطلاق مدفع الإفطار الذي يبين انتهاء يوم من أيام رمضان، ويشرع لنا بداية الفطر في ذلك اليوم.
ومدفع الإفطار كان مميزًا؛ حيث كان الناس في طرابلس يسمعونه من وراء جدران «السراي الحمراء»؛ حيث ينطلق المدفع منبهاً أهالي المدينة بوجوب الفطر لدخول وقت المغرب.
ومع ازدياد عدد السكان وتوسع دائرة المدنية أًصبحت هذه العادة غير متوفرة، وغير موجودة الآن في طرابلس .. وبذلك يعتمد النَّاس في فطرهم على التلفزيون، أو الراديو الذي يطلق فيه مدفع الإفطار ثم يليه أذان صلاة المغرب.
مائدة رمضان تختلف عن موائد الأيام العادية
ومن أشهر ما يقدم في طرابلس خلال شهر رمضان على مائدة الإفطار نوعان من الموائد .. الأولى وفيها يكون التمر، واللبن، والحليب بالإضافة إلى العسلة، والزلابية، والشامية وبعض الحلويات الطرابلسية المعروفة وهذا يكون كتحلية قبل الصلاة المائدة الثانية هي مائدة الإفطار الرئيسة وتكون منوعة.
وتشمل عدة أصناف من الطعام ويكون الطبق الرئيس فيها هو الشوربة .. بالإضافة إلى أصناف أخرى تختص بها مدينة طرابلس مثل :
«البوريك والمبطن والكفتة والضولمة»؛ حيث تلتم العائلة على مائدة واحدة ويعيشون أجواء رمضانية مرحة .. ولا ننسى في الليل أطباق المهلبية والخشاف.
موائد الرحمن هي تلك الموائد التي يقدمها أهالي طرابلس للغريب، وعابر السبيل .. وهذه ميزة يتميز بها كل أهالي ليبيا.
تقدم هذه الموائد لمن يستحق في الطرقات سواء الداخلية، أو حتى الساحلية.. وكذلك يقوم الأهالي بتقديم الفطور لدوريات الشرطة والمرور الذين لم يغادروا أماكن عملهم .. كذلك هناك موائد إفطار تكون في المساجد حيث يقدم الحليب واللبن والشامية والحلويات والأكل الطرابلسي الشهي .. وكل ذلك طمعًا في الأجر من الله سبحانه وتعالى.
أما الشارع في الليل فإنه شارع حركي ممتلئ بالصخب والضجيج وفيه يزداد عدد السيارات .. وعدد الناس الذين يسيرون على أرجلهم لدرجة الربكة في السير .. وممكن وصفه بأنه شارع لا ينام .. خاصة بعد المنتصف من شهر الصيام حيث يبدأ الناس في التجهيز لعيد الفطر المبارك
عمران عمار من مدينه صرمان :
مع حلول شهر رمضان المبارك، حيث يترقب الليبيون حلوله بفرح واشتياق، فهو ليس مجرد شهر للصيام، بل مناسبة تزخر بالرموز الدينية والاجتماعية التي تعيد تشكيل نمط الحياة اليومية، فمنذ اليوم الأول تتغير العادات سريعًا، لتُفسح المجال لنمط جديد من الحياة تمزج بين العبادة والسهر والتسوق، إلى جانب الاستمتاع بأطباق تقليدية موسمية لا تظهر إلا على موائد الإفطار الرمضانية يجتمع حولها أفراد العائلة في التوقيت نفسه، يفطرون معًا، يتبادلون الأحاديث ويتسامرون ثم يؤدون صلواتهم جماعة، في مشهد يعكس روح هذا الشهر الفضيل.
لكن رمضان ليس فقط شهر الصيام والعبادة، بل أيضًا موسم للعطاء والتكافل الاجتماعي إذ يتسابق المحسنون في تقديم المساعدات للمحتاجين، سواء عبر توزيع السلال الغذائية لتخفيف الأعباء الرمضانية، أو من خلال إقامة موائد الرحمن في نواصي الشوارع؛ حيث تُنصب الخيام لاستقبال الغرباء وعابري السبيل، وتمتلئ بأشهى المأكولات، التي تجهز بجهود ربات البيوت الكريمات اللواتي يسخرن وقتهن وجهدهن إكرامًا لهذا الشهر الفضيل، إيمانًا بأن فرحة الصائم تمتد من موائد البيوت إلى موائد العطاء.