يرتبط شهر رمضان في ليبيا بالعديد من العادات والتقاليد والأطباق والمأكولات، وبحلويات من الموروث الغذائي رائحتها تجذبك من مسافة، بشكلها المميز والموضوع بطريقة تلفت نظر جميع المارة، وببخار يصدر عن كل واحدة، منها ما هو مصنوع بالعسل ومنها المخلوط بحبيبات السكر، هذا المشهد يتكرر في أيام شهر رمضان، إذ تعتبر هذه الحلويات من إحدى علامات هذا الشهر الفضيل، يقبل الناس علي شرائها من كل مكان، ففي رائحتها روحانيات الشهر المبارك، وفي مذاقها حلاوة لا ينافسها غيرها من الحلويات، إنها الزلابية والمخارق، أشهر الحلويات الشعبية المعروفة في أيام شهر رمضان، والتي تحضر حصراً للشهر المبارك، ولا تباع في باقي أيام السنة إلا نادراً، ليس لندرتها، ولكنها احدى التقاليد التي تعودها الليبيون في أيام الشهر الفضيل، وعادة ما يتم تناولها خلال السهرة، أو يحملها بعضهم كهدية خلال زيارة الأهل والأقارب، وتقدم للضيوف في الفترة التي تعقب صلاة التراويح، لتحلية ريقهم، مع احتساء (طويسة من الشاهي الاخضر المنعنع).
هي عادات مغاربية قديمة لحلويات من الموروث الغذائي يزداد الطلب عليها في شهر رمضان، ويشتهيها الصائمون خلال تجوالهم في ساعات الصيام، ويتهافتون على شرائها، وتمتد الطوابير لشراء مختلف الأصناف منها وهم يمنون النفس بتذوقها بعد سماع أذان صلاة المغرب، فمحلات بيع الحلويات تغير من طبيعة نشاطها خلال شهر رمضان وتتحول لصنع الزلابية والمخارق، ويدفعهم إلى ذلك الإقبال الواسع على شرائها نظراً لشكلها الجذاب وطعمها اللذيذ، خاصة وأنها تحتوي على كميات كبيرة من السمن والعسل، وتشبه إلى حد ما في شكلها (الشباكية) المغربية.
ويختلف شكل الزلابية عن المخارق، فالشكل العام للزلابية يكون مستديرا، وتتخللها فتحات صغيرة، وهي كرات من العجين، تقلى في الزيت، ثم تغمر بالعسل، وبنكهة الورد، ويكون لونها أصفر أو أحمر فاقع، أما المخارق فهي بنية اللون وذات شكل مستطيل تحضر بالسمن وتقلى هي الأخرى في الزيت، وتغمر بالعسل، ومشهد الزلابية والمخارق، كان معتادًا فيما مضى، لكنه أصبح الآن موسميًا لا يرى إلا في أيام شهر رمضان مما يجعل الناس يصطفون في طوابير أمام المحال التي تصنعها، وليس غريبا أن تلاحظ الطوابير أمام محلات بيع الزلابية والمخارق، ساعة أو ساعتين قبل موعد الإفطار، حيث يتفنن أصحاب (الصنعة) بتجهيز حلوياتهم وتعسيلها وعرضها بألوانها المختلفة لاجتذاب المارة منذ الصباح إلى المغرب.
وعادة ما تجهز الطلبيات يومياً على حسب حاجة الزبائن ونسبة المبيعات ، ويزداد إقبال الزبائن في أيام شهر رمضان على المخارق، وعلى اللون الأحمر من الزلابية الذي تفضله النساء والأطفال واللون الأصفر الذي يفضله كبار السن، فيما انحسر الإقبال على اللون الأصلي وهو لون (غروب الشمس)، وبالرغم من اهتمام البعض بشراء حلويات أخرى كالبسبوسة خلال أيام الشهر الفضيل، إلا أنهم يفضلون الزلابية والمخارق التي تربوا على مذاقها منذ الصغر، لأن هذه الحلويات مرغوبة في الإفطار والسحور وجلسات السمر في ليالي شهر رمضان المبارك.
وتعتبر الزلابية والمخارق حلويات مغاربية بامتياز، الموطن الأصلي لها هو البلدان المغاربية، وبالتحديد في ليبيا وتونس والجزائر، وتشتهر بهما مدينة باجة في تونس، ومعروفة لدى المجتمعات المغاربية بزلابية ومخارق باجة، وتعرض بكثرة خلال أيام شهر رمضان المبارك، وعن سر إقبال الليبيون عليها، لأنها أصبحت أكثر من غذاء، فهي حلويات من الموروث الغذائي، وتتربع على عرش الحلوى في أيام شهر رمضان، فقد تحولت إلى عادة لا يمكن لأي ليبي أن يتخلى عنها، فحتى أولئك الذين يشكون من مرض السكري أو يتبعون حمية معينة، أوجدت لهم حلولا، كأن تعد لهم زلابية ومخارق بدون سمن مع عسل خفيف، وهي رائجة هذه الأيام، فكثيرون وخاصة النساء يحرصن على أن يكون وزنهن دائما في حدود المقبول.
هذه الحلويات التراثية ارتبط تحضيرها وصناعتها في ليبيا بأشقائنا التوانسة لأنهم افضل من يتقن صناعتها في محلات الحلويات الليبية، لعل اشهرهم جارنا وصديقنا السنفاز التونسي سي سالم التطواني المقيم في مدينة بنغازي منذ عام 1968م، شخص محترم جدا وصاحب صنعة متميز، والتونسي الأخر سي القمودي، الرجل البشوش قصير القامة، كان محله في شارع سيدى سالم في وسط مدينة بنغازي القديمة، ويعد من أشهر وأمهر صانعي الزلابية والمخارق، حيث تشتم رائحة الزلابية والمخارق التي كان يحضرها من مسافة، وأنت قادم الى محله من سوق الظلام أو من ميدان الحدادة أو من ميدان البلدية، ولا أنسى سي محمد التونسي رحمه الله الذي اقام في مدينة درنة منذ العام 1948م، ذلك الرجل الشهم والأصيل، المتطوع لحرب 48 بفلسطين، حيث شارك مع اخوته الليبيون في حرب 48، وحين عودته اثر العيش بدرنة والاستقرار بها، ولازالت أسرته (أبنائه وأحفاده) تقيم في مدينة الزهر والنوار درنة حتى الأن، وتحمل هذه الأسرة التونسية الكريمة الجنسية الليبية، ولا فرق بين الأحبة المغاربة في بلدانهم، فهم أبناء بلد واحد.
تقول أختي وزميلتي التونسية المثقفة الأستاذة عبير البدوي المدير التنفيذي والمفوض العام لمؤسسة إرثنا للتراث والثقافة EFHC في الجمهورية التونسية:
حلويات باجة تعود إلى العهد العثماني، وتشكل ميزة من مميزات شهر الصيام لكل التوانسة، وتبقى الزلابية والمخارق الباجية إحدى أهم الحلويات التونسية التي لا تستطيع مقاومتها، كما تبقى من أهم الحلويات التي تستقطب العديد من التوانسة في شهر رمضان، فهي صنعة أجدادهم وعادة رمضانية رافقتهم أبا عن جد، ولا تكاد تخلو مائدة افطار في تونس منها.
وتضيف قائلة بلهجتها التونسية: الزلابية تحضر خلال شهر رمضان ومعها المخارق وهي نوع من الحلويات الرمضانية التي اشتهرت بها مدينة باحة، وكانت بدايتها عندما صنعها سيدي بعداش زوج زينب بن زلاوية، لتخرج من دار بن زلاوية، من بعد عملوها دار ڤورباد ثم دار السويسي واشتهرت عند دار بن شريفة، لأنه عندما ذهب لأمين باي لباجة في زيارة وجد ابن شريفية يصنع المخارق في محل بن زلاوية وأخذ شهادة من عند لأمين باي، بعد ذلك توارثها جميع الناس، ولم تكون مثل التي نشاهدها الأن، لأنها كانت تحضر من السميد وتغطس بالعسل الحر (الطبيعي)، وهذه المواد اليوم اصبحت مكلفة، وكان شكلها (كراكب) ويضع بداخلها السميد ثم تثنى العجينة وتغطس بالعسل، وترش باللوز المبشور، وكانت تقدم هدايا لكل زوار باجة كتذكار من باجة، ومعروفة لدى المجتمعات المغاربية بمخارق باجة، تماما مثل المقروض القيرواني، وكلها حلويات تعرض خلال شهر الصيام، ومن العادات الباجية أيضا كانت تقدم المخارق في أربعين المتوفي، كذلك تقدم في الحفلات الصوفية مثل زرد الأولياء الصالحين ويقدمون معها أكلة اخرى تسمي المدموجة لأنها تحمل ذات الخلطة.
هذه الحلويات التراثية (الزلابية والمخارق) والتي تعتبر من الموروث الغذائي الذي لا يغيب في شهر رمضان، الذي تشبث به أهلنا في ليبيا وتونس والجزائر، كما تشبثوا بعاداتهم وتقاليدهم العريقة وحرصوا على موروثهم الأصيل خلال أيام شهر رمضان المبارك من كل عام، حفظ الله أهلنا جميعا.
صحة فطوركم وكل عام وأنتم بخير.
إعداد وتجميع المادة أعضاء مؤسسة إرثنا للتراث والثقافة EFHC من ليبيا
أ. فرج غيث، ومن تونس أختي وزميلتي المجتهدة والمثقفة الأستاذة عبير البدوي المدير التنفيذي لبرامج مؤسسة إرثنا للتراث والثقافة EFHC، والمفوض العام في الجمهورية التونسية. كل الشكر لها على الجهد الكبير الذي تقوم به دائما، لتعريفنا بروائع مأثر التراث المغاربي الجميل، الغني بكل تفاصيله الرائعة.
دائما امتدادنا واحد ومجتمعنا المغاربي واحد وتراثنا وموروثنا المغاربي واحد.